قال الأستاذ داود الشريان في برنامج «للحوار بقية» الذي عرضته الإم بي سي في رمضان المنصرم إنه ترك أجواء المثقفين وانتقل للاهتمام المباشر بقضايا الناس عبر برنامجه (الثامنة) وعلل ذلك بقوله (المثقف يتحدث للمثقف عن المثقف)!. هذه النقلة التي أشار لها الأستاذ داود تحرض على إعادة السؤال المعتاد عن تعريف المثقف! وهل القضية مثقف أم دور ثقافي؟ وهل يحق لنا سلب صفة المثقف عن داود الشريان لمقاربته هموم الناس أم إن الأصح أن نقول باختلاف الأدوار الثقافية بغض النظر عمن يقوم بها؟ هناك إشكال يمكن ملاحظته من تعليقات القراء على بعض الموضوعات المتعلقة بالأفكار في الصحف والمواقع الإلكترونية، إذ تسود حالة امتعاض لدى القراء حين يرون في الكاتب جنوحاً نحو الأفكار والتنظير بعيداً عن ملامسة حاجاتهم واهتماماتهم، أو بعبارة أخرى محاولة أسر المثقف في نمط لا يتجاوزه. أقول إني أميل إلى إلغاء مسمى مثقف والتعويل على الدور الثقافي ليكون الضابط والمعيار هنا هو (تغيير طريقة التفكير) لدى المتلقي، فمن يحسن القيام بهذا الدور -في أي اتجاه كان- فقد قام بفعل ثقافي يمكن التعامل معه. عندما تقرأ كتاب كريستوفر هيتشنز عن سيرة (توماس جيفرسون) فإن اللافت في تلك الأحداث التي انتهت بإعلان استقلال أمريكا هو العلاقة بين السياسي والمثقف، وكيف كانت الأدوار الثقافية متكأ لكثير من القرارات ذات الأهمية إبان تلك الفترة، لقد كان المثقفون وأصحاب الفكر هم من يصنع الأحداث ولم يكن المثقف متوارياً كما هو الحال اليوم في بلداننا ينتظر السياسي ليقرر فيقوم هو بالتعليق والتصفيق. إن أخطر معضلة تواجه مثقف اليوم هي (تيه الذات) بمعنى أن المثقف لايزال يبحث عن نفسه ويفتش عن ذاته، يطيل النظر كثيراً في مرايا القضايا لعله يجد روحه بين تفاصيلها، ولعل أبرز تمثل لهذا التيه أن الأحداث والقضايا هي من تصنع المثقف لا العكس، بل إن بعضهم أدمن التعاطي مع حالات معينة ومواقف محددة ينتظر تكرارها ليكون له حضوره، وهذا الأمر لا علاقة له بفكرة التخصص بل هي محاولة لاستنقاذ الذات من خواء يقوم بالتشويش على وجودها. قد تبدو الحاجة ماسة لأن يعيد المثقف الاعتبار (للداعية) في ثناياه، أو بمعنى آخر استنقاذ بقايا الداعية داخل (المثقف) وإعادته للحياة مجددا -والداعية هنا لا علاقة له بالتدين- ذلك أن محاولة الحياد وتجنب التبني لا تفلح في صناعة شيء وأن الأمر يقتضي وجود (مثقف رسالي) صاحب مشروع واضح بعيداً عن الحالة الانتظارية التي أشرت إليها سابقاً والتي لن تكون نتيجتها سوى بطولة من وهم، وما أسرعنا في تخليق الأبطال الورقيين. إنها فئات ثلاث لو انفصلت عن واقعها فإن النتيجة أليمة جداً (السياسي والمثقف والثري)، فانفصال الأول نبصره واقعاً في ثورات الشعوب، وانفصال الثالث مداولة للحياة بين النخبة وترحيل للطبقة الوسطى وزراعة لطبقية وأحقاد لا تنتهي، أما صاحبنا الثاني فإن انفصاله وتعاليه هو الأخطر حين يشرعن لصاحبيه كما ستفوته فرصة فهم ما يجري من أحداث -لو أراد لها فهماً- وبالتالي سينتج تشخيصاً خاطئاً ومن ثم معالجة مجدفة، حتى إذا رفضه وأطروحاته المجتمع صرخ بأدنى صوته (أغبياء)! وتكون الحالة في منتهى السوداوية لو تحالف الثلاثة على الاغتراب عن محيطهم فإن إفاقتهم مما هم فيه تحتاج لصدمة أكبر من تلك التي أحدثتها من وقعت صدقته في يد غني! إن المثقف ليس ممثلاً بالمعنى الفني المعاصر نحبه في أدواره (البطولية) ونكرهه عند حقيقته، بل هو حالة متجانسة متصالحة -وإن كانت متفوقة- لا تنقم على المجتمع تخلفه -كبراً من عند معرفتها- ولا يطول أمدها رهن استدعاء قد لا يأتي، بل إن أعظم أدواره محاولة فهم المجتمع وتفكيك طريقة تفكيره والاستغراق في تفسير الأحداث تجنباً للقولبة والجاهزية وليضع بعد ذلك الحلول الآتية من جذور المشكلة لا من طرف أغصانها. همس الختام في مسمع وزارة (الثقافة) والإعلام: (مجزرة اللغة) في القناة الثقافية من المذيعين والمذيعات وعلى شريط الأخبار… إلى متى؟ مع حفظ حقوق المصطلح للدكتور حمزة المزيني.