كل فن، وفن الشعر بالذّات، هو نبطي بالضرورة، وليس من قارئ حقيقي، أكثر جدارة بمُسمّاه، واستحقاقا له، من القارئ النبطي، أتحدث عن جذر الكلمة، أحاول استعادتها في حالة زهوها الأولى، قبل أن تبيع وتشتري فيها العبارات على الأرصفة، وقبل أن تتورّط في العامية، المتورطة في المشافهة، المتورطة في الأميّة، المتورطة في الجهل، وجميعها ورطات زائفة، ومزوّرة، ولا دليل يوجب الحكم على أي منها بربطه مع أي منها في هذه السلسلة القميئة، وجرّها جميعا إلى حبل المشنقة، لغة قولهم «نبط الماء»: إذا خرج من منبعه، واصطلاحا الاستنباط: استخراج المعاني من النصوص بفرط الذهن وقوة القريحة، هذا إن اقتصرنا على تعريفات الجرجاني، التي تبدو أكثر رزانة وأقل تحيزاً من عمالقة آخرين مثل الفارابي، وابن سينا، يكاد هذا الأخير لا يجد سبيلاً للمعرفة الخالصة الموصلة إلى حقائق اليقين إلا عبر طريق الاستنباط، حيث مجاهدة النفس لترتقي بقدراتها التخيّلية، أما إخوان الصفا فالمعرفة الاستنباطية عندهم هي أسمى أنواع المعرفة، القواميس فوانيس، نبط الماء: خرج من منبعه، وهل القصيدة شيء غير نبع؟ وهل الشعر شيء غير ماء؟ وهل المعنى يكشف الشاعر والقارئ ويكتشفانه إلا استخراج ماء من نبع، كلٌّ وحبله ودلوه، وعزيمته وصبره، لأدونيس عبارة قاسية بعض الشيء، غير أنها فيما نتحدث فيه وحوله، جديرة بالاحترام على ما أظن: يبدو أنّ أولئك الذين يُنَصِّبون أنفسهم أئمةً للغة العربية في المدارس والجامعات هم قاتُلوها الأَوَل!، ومن الطريف أن عبارة أدونيس هذه كانت ضمن تقديمه لترجمة علي نجيب إبراهيم، كتاب «الماء والأحلام « لغاستون باشلار، إلى العربية، وهو كتاب أقل ما يمكن القول فيه وعنه إنه قصيدة نثر رائعة، تنجح في تقديم الشعر على أنه ماء، ولفرط البهاء، فإنها تنجح في تقديمه على هذا النحو حقيقة لا مجازا، وهل الفم الجاف من الماء قادرعلى النطق بكلمة؟ وهل الذوق إلا من التذوّق؟ القواميس فوانيس: ذاق الشيء، أحسه بفمه ولسانه وخبر طعمه، فهل يمكننا التذوّق بغير مياه؟ ليست بالضرورة مياه الفم، فالسمع مياه أيضا، والعين مياه كذلك، العين، إنها والعبارة لبول كلودل: هذه البِرْكة الصغيرة غير المُكتَشَفة من النور السائل في أعماقنا..! صاحبي: ارفع رأسك، أنت نبطي..!