لا شك أن الإسلام دين العلم والواقعية، يدعو إلى التبصر والتحقق في الأمور الحياتية بشكل عام وينهى عن التعقيد والتشديد، والتبعية العمياء، أفكاره سهلة وبسيطة غاية في البساطة «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة»، كل الإسلام يدور حول هذه الكلمة ويؤكد عليها، فهو يهتم بظواهر الأمور ويدع بواطنها لله، وهو ليس دينا ثيوقراطيا كهنوتيا غارقا في الفكر الفلسفي العقيم ولا دينا باطنيا يهتم بأمور القلوب والروحانيات والماورائيات فقط، ولا دينا «ماضويا» مجردا، يستقي مقوماته الأساسية من التاريخ والأحداث الغابرة، بل هو دين فكر وثقافة نابضة، يحفز العقل ويحثه على بناء مجتمعاتنا وتطويرها وتنظيم شؤونها بما يضمن لها مواكبة العصر وعلومه المتقدمة وتضييق الهوة الكبيرة بيننا وبين الأمم المتطورة التي أخذت بوسائل العلوم والمعرفة فتقدمت، واهتمت بحاضرها أكثر من اهتمامها بماضيها، فأبدعت وابتكرت ووصلت إلى قمة الرقي والحضارة، بينما ظللنا نحن في الحضيض نبحث بين طيات التاريخ ما يتعسنا ويشقينا ويؤخرنا عن الركب الحضاري والإنساني، منذ أن أسقطت تلك الدول من حساباتها التفكير السفسطائي العقيم والخيال المريض والأحلام الوردية واتجهت نحو الواقع بعقول تجريبية متفتحة، سادت العالم، وتحكمت فيه وملكته، وملكتنا معه وسيطرت على عقولنا وبلداننا، وقادت مصائرنا إلى حيث تشاء وكما تشاء، فأصبحنا لها عبيدا وخدما «سواء أردنا ذلك أم لم نرد»نطيع أوامرها طائعة عمياء، وحق لها أن تطاع، لأنها تملك كل شيء ونحن لانملك أي شيء، هي تنتج ونحن نستهلك هي غنية ونحن فقراء، هي تقونن وتشرع ونحن نطبق، هي تخطط ونحن ننفذ، هي تزرع ونحن نأكل، أمدتنا بكل ما نلزم وما لانلزم، وفرت لنا كل شيء حتى قبل أن نطلبه، حتى أصبحنا أمة متنعمة مترهلة كسولة، تعيش لتأكل وتتناسل وتزيد أعدادها يوما بعد آخر، عالة على المجتمع البشري، أمة مستهلكة، هذه الأمة بمواصفاتها الحالية لا يمكن أن تكون «خير أمة أخرجت للناس»، بالمعنى الذي قصده رب العالمين أبدا ! فلا هي التزمت بقوانين الحداثة وواكبت العلوم المعاصرة ولا هي التزمت بمفاهيم الإسلام الأخلاقية والإنسانية ودعواته المتكررة للأخذ بأسباب العلوم الحياتية والابتعاد عن استحضار الماضي والتعايش معه كأنه حقيقة شاخصة للعيان وهوليس كذلك «تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون» وقد يتكرر هذا التنبيه الشديد في مواضع عدة من القرآن الكريم، ولكن كعادتنا في عدم الشعور بالمسؤولية واللامبالاة، نمر عليه مرور الكرام وكأن الأمر لايعنينا لامن قريب ولا من بعيد ونظل نتشبث بأهداب الماضي»الجميل»، ونتفاعل معه ونستحضر حوادثه ووقاعه بكل دقة وأمانة غير آبهين بما تجري من طفرات حضارية كبيرة حولنا، ولا مدركين «للبون» الشاسع الذي يفصلنا يوما بعد يوم عن الأمم الأخرى، والنتيجة أننا كلما توغلنا في الماضي وسبرنا أغواره، توغلت الأمم المتطورة في الحضارة وارتقت في ميادين الحياة وتقدمت.. ويا ليتنا بحثنا في الماضي عن أشياء نفعت مجتمعاتنا وأضافت لها شيئا ذا قيمة جوهرية، بل انصب جل اهتمامنا على الحوادث الدامية والمعارك الطاحنة والمنازعات الطائفية والعرقية، والقتل والدمار وسفك الدماء، وإعادة سيناريو الأحداث التاريخية التي لاطائل من ورائها مثل ؛ من كان أحق بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ أبوبكر الصديق أم علي؟ ومن كانت الفئة الباغية في المعركة التي دارت بين معاوية وعلي؟ وهل كان «الحسين» على الحق عندما تصدى للدولة الأموية وكيف استدرج إلى كربلاء ليقتل هناك بالطريقة الدراماتيكية التي يعاد تكرارها كل حين، بينما نحن على هذه الحالة المتخلفة، نبحث في أعماق التاريخ عن معرفة لا جدوى منها، نرى الغربيين يغوصون في أعماق السماء ليكتشفوا كواكب وأجرام جديدة، وفيما ننشغل نحن بترميم قبور الأولياء والأئمة الأطهار ونؤلف الكتب والدراسات حول كراماتهم ومعجزاتهم الخارقة، نرى الغربيين منهمكين في إنشاء المطارات ومنصات لإطلاق الصواريخ الفضائية، فشتان بين من يريد أن يعلي من قيمة الإنسان ويشده إلى الواقع ويؤكد حضوره الفاعل كسيد بلامنازع للوجود، وبين من يريد أن يغيبه عن الواقع وينتقص من أهميته ويعيشه في عالم كئيب ومغلق من الخيالات والأحلام التاريخية العقيمة.