فكأن هذا الوطن ليس أكثر من رابطة مشجعين، أو كأنه نقابة عمّال -لو كانت به ثمة واحدة- ليس لمنسوبيها إلا أن يرددوا ذات الأهزوجة، ويرتدوا نفس (اليونيفورم)، ومن يفعل غير ذلك يعدّ متمرداً وناشزاً عن المجموعة. يصرّ البعض على أن واجب الانتماء يقتضي التماهي، ونسوا أن الأوطان العظمى موائل للتنوع، وأن تجارب الاستنساخ نجحت مع النعاج والفئران، لكنها استعصت مع بني البشر. ويصدمك أكثر من غيره المواطن المتعلم، وذاك المحسوب على جموع المثقفين، حين يحسم اختلافه معك بعبارة «أنت لا تمثل السعودية»، فتحارُ في الردّ عليه، ليس لأن العبارة مفحمة.. لكن لأن بعض النُطق مضادٌ للمنطق. وتكاد تستخرج من جيبك جواز سفرك، أو بطاقة هويتك لتفحمه بالمقابل. ثم تستوعب أن مفهوم الأخ للمواطنة مبني على ذائقتك للحياة، أو على شجرة نسبك أو ما تخفي الصدور. وأن تمثيل الوطن عنده ليس مقصوراً على موظفي الخارجية أو لاعبي المنتخب.. بل الوطنية عنده موقف: موقفه هو بالذات.. حصرياً وقسراً ودون مجال للتنويع. فهو الثقة وما سواه مشبوه. هو الأصل وما سواه تقليد. وما درى. وليتها كانت مواقف سياسية، تلك التي هي مدار الخلاف بينكما، مع عمق بحر السياسة وبعد ساحله. ليتها كانت مواقف شرعية، مع تعدد مدارس الفقه وتأويلات النص منذ عصر يوم بني قريظة – وما شأن الفقه بالجنسية؟ -، لكنتَ مررتها للأخ الرافض لاستحقاقك شرف المواطنة. لكنه لا يراك إلا موجة تُغضن وجه بحيرته الراكدة. وصاحبنا لا يحب الأمواج ولو صغرت، ولا أن يُقلق ركود عالمه شيء. ولإن عارضتَه في أتفه التوافه فالأمر عنده سيان. أنت -برأيه- لا تستحق أن تمثل وطنكما.. حتى تصير مثله هو، وتغدو نسخة منه. هيهات. تكلمَ في هذا الشأن متكلمون كُثر، وما قالوه ذهب أدراج الرياح.. كما تشي الأيام وتنبئ به الحال. تكلموا عن (مكارثي) ومحاولته تعريف المواطن الأميركي الصالح. فخلق ضجة انقلبت لها الدولة وانقلب المجتمع، وأُلقي بالشرفاء في الزنازين وعلى قوارع الطرق. وهناك مثال آخر حفظه لنا التاريخ القريب، أفدح من مثال مكارثي، لنفس محاولات استنساخ الشعوب، مثال عرفته الصين أيام زعيمها البائد (ماو).. فأين (ماو) اليوم؟ وأين هي صينه؟ لقد قرر ماو أن «يقفز للأمام».. فاختلق ثورة حمراء. وجعل من مئات ملايين الصينيين نسخاً لعسكري الثورة الأحمر. ملابسهم الرمادية ذاتها، وقصات شعرهم ذاتها، والأفكار التي في رؤوسهم هي ذات أفكار الزعيم.. يرتلونها غدواً وعشياً من كتابه الأحمر، حاول القذافي لاحقاً أن يقلده بكتابٍ أخضر، اختلفت الألوان والنتيجة واحدة. تخلصت الصين من إرث ماو كله منذ أربعين سنة، وها هي اليوم قوة عظمى. وليبيا على طريق الخير هي الأخرى بإذن الله. ماو تسي تونغ ومكارثي لعبا ورقة العدو الخارجي، وعزفا على وتر الخصوصية القومية. ويدهشك أن بيننا عشرين مليون مكارثي وعشرين مليون ماو، ليس لهم في السياسة ومصالح الدول ناقة ولا جمل، إنما كل واحد منهم نصّب نفسه وصياً على خصوصية البلد وتراثه كما يريدها هو، وكأنما المليون ميل مربع بمن فيها مفرغة باسمه بصك محكمة. فليست عنده إلا تلك العبارة كلما تحركت خارج حدود إدراكه ومصالحه أو تنفست بعمق.. «هذا لا يمثل السعودية»!. إن المجتمعات النامية، فضلاً عن الأوطان، لا تفتأ تمر بأطوار التشكل والنمو إلى أن يستوي عودها ويشتد، ولا يتحقق لها ذلك إلا بالدربة على فعل الحريّة، وتطوير مَلَكات الرفض والقبول. تلك لها آليات وأصول، وقوانين تحكمها ومفكرون. أما الرفض الأعمى لمجرد الخوف من المجهول، ورفض سنّة النمو ونفي كل من يسايرها.. فهذا يسير ولا يستلزم عقلاً ولا منطقاً، ولا يليق إلا بمن ارتضاه لذاته سمتاً وسمة. أما المجتمعات العريقة الراسخة في الحضارة، فتعرف كيف تستوي على معارج النمو والتقدم، وتجيد استقبال متغيرات الدهر الواقعة حتماً وغصباً، فتحتضن خيرها وتتفادى شرها بدون أن تختنق بعبقها. فلا تهزها محض فكرة، ولا تحرك منظّريها أي صورة جديدة أو أي رأي طارئ. فإن حصل فاعلم أنها إما عراقة زائفة، أو أن المنظومة العريقة تتداعى بعدما أهملت أساساتها، فصارت لا تحتمل العلو بالجديد الفتيّ، ولا تملك إلا أن تلفظه.. وأنّى لها أن تفعل؟، فالأوطان تسبق الدماء جرياً في العروق. والأوطان ما عادت تُعرّفها الأزياء ولا الأفكار ولا الألوان.. الأوطان تَسَعُ ذلك كله، تزدهر وتتفوق بالتنوع وبالتعددية والتمازج. الأوطان العظمى ليست حقولاً مسوّرة، ولا فلاتر للأعراق والأذواق. وإن كانت ثمة أفكار «لا تمثل» وطناً اليوم.. فعسى أن ينمو الوطن ويتعملق ليستوعب كل الأفكار غداً.