في تونس ضجة لم تهدأ بعد، موضوعها، الموقف من التعويضات التي يفترض أن يتمتع بها المساجين السياسيون السابقون الذين تعرضوا للتنكيل والتعذيب والتشريد في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي. وما كان لهذه المسألة أن تتحول إلى قضية خلافية حادة تشغل الرأي العام الوطني لولا التوقيت الذي تنزلت فيه، إلى جانب أن المستفيدين من هذه التعويضات هم في غلبيتهم كوادر حركة النهضة وأنصارها. تعد التعويضات حقا مضمونا لكل من تم اضطهاده بسبب رأيه أو مواقفه السياسية. وهي من هذه الزاوية ليست بدعة تونسية، وإنما مارستها دول عديدة على أثر ثورات أو أزمات سياسية، وهي أيضا جزء مما يسمى بالعدالة الانتقالية التي يتم اللجوء إليها بهدف طي صفحات الماضي السيئة، وتحقيق المصالحة بين المواطنين من جهة وبين الدول وضحايا المراحل السابقة من جهة أخرى. وتعد المغرب أفضل مثال على ذلك، حين قرر الملك الراحل الحسن الثاني تمهيد الطريق لابنه محمد السادس الذي أتم المبادرة وقام بتقديم تعويضات عالية لكل من تم اضطهاده. ثلاثة عوامل حولت هذا الحق إلى ملف ملغوم أصبح يؤرق الحكومة الانتقالية بقيادة حركة النهضة: أولا: يتنزل هذا الملف في سياق سياسي واقتصادي صعب، جعل أي حديث عن اقتطاع قسم من الميزانية العامة لصالح ضحايا المرحلة السابقة من شأنه أن يفجر خلافات حادة. فالاقتصاد التونسي لم يُشفَ بعد من أزمته الهيكلية، وهو ما يفرض التركيز على أولويات أخرى مثل البطالة وملف الشهداء والجرحى. ولهذا برر وزير المالية السابق د.الديماسي استقالته مؤخرا بعوامل متعددة، من بينها ملف التعويضات الذي سيكلف ميزانية الدولة حسب تقديره ألف مليار سنويا من المليمات. ثانيا: حجم الأشخاص الذين سيتمتعون بهذه التعويضات مرشح للتوسع، بعد أن تم توسيعه ليشمل كل من تعرض للاضطهاد منذ مطلع الاستقلال، وهو ما سيجعل الفاتورة تصبح أكثر كلفة. فالعدد بلغ حسب بعض المصادر اثني عشر ألف ملف تحت الدرس. ثالثا: يتنزل هذا الملف في سياق حرب التجاذبات بين حركة النهضة من جهة وخصومها السياسيين والأيديولوجيين من جهة أخرى. وهو ما دفع هؤلاء الخصوم إلى شن حملة قوية ضد الحركة، واتهامها بكونها «تتاجر بنضالات أعضائها في ظرف تشكو فيه البلاد من مشكلات عويصة». ولمزيد إحراج «النهضة» أعلنت بعض قيادات اليسار التي سبق لها أن قمعت في مرحلة سابقة عن رفضها التمتع بأية تعويضات بحجة أنها ناضلت من أجل تونس وليس من أجل الحصول على امتيازات. للخروج من هذا المأزق، فإن الحكومة وبقية الأطراف السياسية والمدنية مدعوة إلى ما يلي: على الجميع إبعاد هذا الملف عن التجاذبات السياسية التي حطت من قيمته الرمزية، وأخضعته إلى المزاد العلني السياسي. وبالتالي لابد من الإقرار بأن عملية جبر الضرر جزء من حقوق الإنسان المضطهد، ضمنته عديد المواثيق الدولية. نظرا للسياق الاقتصادي الصعب الذي تمر به البلاد، فإن هذا الملف لا يعد أولوية قصوى مقارنة بغيره من الملفات، وذلك مثل ملف عائلات شهداء الثورة والجرحى. ومن هنا يفترض البحث عن صيغة ملائمة تضمن الحق من الناحية المبدئية، وفي الآن نفسه تخضعه لآليات وأجندة تجعله لا يصطدم مع مصالح البلاد العليا. أهمية إعادة الاعتبار الرمزي لكل من تم قمعه والتنكيل به طيلة نصف قرن أو يزيد، لأن المهم في هذه العملية التخلص من نزعة الانتقام والثأر، إلى جانب القضاء على الأسباب التي أدت إلى قيام نظام مستبد. فتح ملف محاسبة كل من مارس التعذيب في حق النشطاء السياسيين والمناضلين النقابيين والحقوقيين. وهي خطوة ضرورية في اتجاه تحديد المسؤوليات، وطي صفحة المظالم التي ارتكبت بصفة نهائية. توجيه العناية نحو الأشخاص الذين يعانون فعليا من أمراض أو آثار جسمانية قاسية نتيجة التعذيب والاعتقال، وذلك بتوفير العلاج لهم، وتأهيل عديد منهم لكي يتمكنوا من العودة إلى سابق أعمالهم لضمان الحد الأدنى من الكرامة. إن الصراعات السياسية التي تفتقر إلى بوصلة غالبا ما تؤدي إلى خلط الأوراق، وبدلا من أن تساعد على حل المشكلات المطروحة وتوضيح الرؤية، يحدث العكس، فيختلط الحابل بالنابل، وتتحول الأشياء الجميلة إلى كوابيس تحاصر مستقبل الأفراد والمجتمع.