أفضل مسلسل وقعت عليه عيناي، فرأيت فيه خلاصة حياة أبي حفص الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، هو ما سلسله البخاري بإسناده في جامعه الصحيح وهو يسرد أيامه الأخيرة. من منهج البخاري أن يختصر الأحاديث ويأخذ من النص الطويل شاهداً قصيراً يستدل به على مسألة فقهية أو عقيدية يريد تقريرها. لكنه في قصة اغتيال عمر سرد حديثاً طويلاً من صفحتين، لخّص فيهما كل حياة عمر الفريدة في صور فوتوغرافية مرت على محطات ومعالم، فحفرت في ذاكرتنا رمزاً خالدا ماجداً، وقدوة. لقد كانت حياةً حافلة. وكان الصارخ الأعلى فيها هو صوت العدل والحق. إنها حياة عمر الذي وصفته أمنا عائشة بأنه: كان نسيجاً وحده. المشهد الأول يقف فيه عمر مع الصحابيين حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف فيقول: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حملناها أمراً هي له مطيقة. لقد كان يتحدث عن أرض السواد العراقية والخراج الذي فرضه عليه الصحابيان بأمر منه. لكنه هنا متخوف – برغم ثقته بهذين العدلين- أن يكونا قد فرضا على الأرض وأهلها أكثر مما يطيقون. فيعود الصحابيان الورعان فيؤكدان أن السواد تتحمل أكثر بكثير مما فرض عليها. فيعود الفاروق بعد كل هذه التطمينات ليقول: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق! ثم يزيد: لئن سلّمني الله لأدعن أرامل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا. قال عمرو بن ميمون راوي الحديث: فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب. ثم سرد كيف أنهم اصطفوا لصلاة الفجر، ما بين الرواي وعمر إلا عبدالله بن عباس، وكان الراوي يقف في الصف الثاني، وعلل ذلك بقوله: ما منعني أن أكون في الصف الأول إلا هيبته، وكان رجلاً مهيباً. قال: فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني الكلب. وكان أبو لؤلؤة المجوسي قد طعنه بعد تكبيرته، ثلاث طعنات بسكين ذات نصلين مقبضها في الوسط. ثم حاول الفرار فطعن من المسلمين 13 رجلاً مات منهم سبعة، وحين أمسك به الناس انتحر. وفي رواية: ظن عمر أن له ذنباً إلى الناس لا يعلمه فدعا ابن عباس وأمره أن يخرج فينادي في الناس: أعن ملأ منكم كان هذا؟ فخرج لا يمر بملأ من الناس إلا وهم يبكون، فكأنما فقدوا أبكار أولادهم. قال ابن عباس: فرأيت البشر في وجهه. ثم أمر ابنه أن ينطلق لعائشة أم المؤمنين فيقول: يقرأ عليك عمر السلام – ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا – وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه. فوجدها ابن عمر قاعدة تبكي، وكان جوابها: كنت أريده لنفسي ولأوثرنه به اليوم على نفسي. القول بأن أبا لؤلؤة المجوسي قتل الفاروق لمجرد أنه طلب من عمر أن يخفف المبلغ الذي يدفعه لسيده المغيرة بن شعبة، وأن أبا لؤلؤة حقد حقداً شخصياً لهذا السبب، قول متهافت شديد الضعف عندما تعرضه على التحليل والنقد. لأن رفض التخفيف لو كان جرماً، فهو لا يستحق القتل بهذه العملية الانتحارية التي أودت بحياة القاتل، وطعن 13 مسلماً، مات منهم سبعة. ولو كانت القضية تنحصر فيما يعانيه من المغيرة لرأيناه يسعى لقتل المغيرة بدلا من الفاروق. والتحقيق، أن عمر كان قد وحّد توجه الجيوش الإسلامية لفتح الإمبراطورية الساسانية الفارسية في عام 21ه ولم يمض عام 23ه حتى استكمل القضاء على تلك الامبراطورية وفتح فارس برمتها. ومقتل عمر رضي الله عنه كان في 26 ذي الحجة 23 أي أن نهاية فارس الساسانية ومقتل عمر كانا في نفس السنة. هذا هو السبب الحقيقي لعملية الاغتيال السياسية هذه. وما كان أبو لؤلؤة إلا أداة تافهة. شهد عبدالرحمن بن أبي بكر أنه رأى أبا لؤلؤة قبيل مقتل عمر يتحدث إلى الهرمزان، حاكم إقليم خوزستان في عهد يزدجرد الثالث، وكان قد نزل في المدينة، ورجل من الأنبار يقال له جفينة النصراني، وأنهم جفلوا لما رأوا عبدالرحمن، فسقطت بينهم سكين بنصلين مقبضها في الوسط. فلما قتل عمر، عرف عبدالرحمن السكين. وآخر الأدلة أن لأبي لؤلؤة المجوسي ضريحا رمزيا في مدينة قاشان الإيرانية يسمّى ضريح بابا شجاع الدين وهو شاهد حيٌ وقحٌ على المؤامرة التي أودت بحياة شهيدنا وأميرنا رضي الله عنه. إنها الأفاعي الفارسية ناعمة في ملمسها، تتظاهر بالضعف تارة، وتراوغ تارة، وتحسن الحوار الدبلوماسي بجدارة، إلا أن أنيابها الغادرة ليست بناعمة ولا ضعيفة، البتة.