ها هي الأحزاب الإسلامية تفوز تباعا بالانتخابات في تونس والمغرب ومصر. ولو تكررت اللعبة الديمقراطية بالحد المطلوب من الشفافية في بلدان وجهات أخرى لفازت بالنتيجة ذاتها (فوزها في ليبيا تحصيل حاصل). هذا واقع لا بد أن يعترف به الجميع، وأن يرحب به كل دعاة الديمقراطية التي طالما قيل أنها قد لا تكون الأفضل لكنها تظل الأقل سوءا بين أنظمة الحكم. فالثورة الشعبية حررت الوطن من أنظمة الاستبداد والفساد، نظفت الطريق بمعنى ما. وحين دعي المواطن للتصويت على البديل اختار، في غالبيته، هذه الجماعات التي يحسب أنها ستحقق له المزيد من أشكال العدالة والتنمية مع حفظ الكرامة وحماية الهوية. لا شك في أن النتيجة صادمة لجل المثقفين المنتمين إلى تيار الحداثة في مساره العريض . لكن الصراخ لن يجدي أمام وقائع عنيدة أفرزتها صناديق الاقتراع الحر الشفاف. السؤال الذي طرح وسيطرح أكثر فأكثر مستقبلا هو، لماذا تقدم الإسلاميون وتراجعت أحزاب تقدمية وليبرالية كانت تظن أنها تنتمي إلى العصر وتمثل إنسانه فكرا ومسلكا؟. نعم، لابد من فهم الظاهرة قبل أن تعد مكسبا لطرف وخسارة لآخر. ولن تجدي التحليلات الخجولة والبيانات العجولة. هناك ثقافة عامة تنتج مثل هذه التوجهات وستظل تغذيها إلى حين. والاشتغال على الأفكار والقيم والمعايير السائدة من وجهة نظر معرفية نقدية، هو صلب عمل المثقف الذي يراقب الأحداث ويجتهد لفهمها. هناك ثلاثة عوامل نزعم، ونكاد نجزم، أنها الأكثر قدرة على تفهم ما جرى وتعين من ثمة تلك النخب الاجتماعية والسياسية التي تسعى إلى تغيير الواقع وتجاوزه وقد انفتح الطريق أمام الجميع. هناك أولا معضلة الأمية التي تحرم الفرد من أشياء كثيرة لكنها لا تسلبه حقه في المشاركة السياسية أيا كان شكلها ومستواها. وفرد كهذا قد لا يفهم الكثير عن رهانات العصر وتحدياته التي لن تحل بشعار «الإسلام هو الحل» بكل تأكيد. لكنه يفهم جيدا، وأكثر من غيره ربما، خطاب من يقول له إننا سنحترم هويتك وننمي دخلك ونحسن الخدمات في حيك وقريتك وما فات من مكاسب الدنيا يكسبه المؤمن الحق في الآخرة.. إن شاء الله. ارتفاع نسبة المواطنين غير المتعلمين أو المتعلمين تعليما متوسطا وضعية قائمة يعيشها ويعانيها حوالي نصف السكان في مصر والمغرب. لكنها ليست علة جامعة مانعة. وهنا يُطرح السؤال وينفتح على العامل الثاني: من أين جاء هؤلاء البسطاء ليغرقوا الفضاء الاجتماعي؟. فالانفجار السكاني ظاهرة بارزة في كل المجتمعات العربية فقيرها وغنيها. إنه ثمرة مرة للإنجاب المفتوح، مع تعدد الزوجات أو بدونه، والذي عادة ما يولد عددا متزايدا من المواطنين الذين لا تتوفر لغالبيتهم فرص التعلم الجيد والحياة الرغدة. والنتيجة المنطقية الوحيدة أن هذا «المواطن الكمي» سينتمي بالضرورة إلى تلك الطبقات الشعبية التي تعيد إنتاج الوضعيات ذاتها. لا شك أن الأنظمة الفاسدة أو الفاشلة هي المسؤول الأول عن هذا الحرمان الذي يحول غالبية المواطنين إلى طاقات مهملة معطلة، أي إلى عبء على مشروعات التنمية كلها. وهذا هو العامل الثالث. نعم، الاستبداد يولد الفساد كأنيميا حادة تظل تنتشر وتفتك بالجسد الاجتماعي إلى أن يضعف أو ينهار. أطروحة برهان غليون عن الدولة التي تشتغل ضد المجتمع وجيهة تماما لأنها واقع معيش لسوء الحظ في جل البلدان العربية. الأنظمة الجديدة يفترض ألا تكون هكذا. فالمنتظر منها، وهي تدعي العدالة والشفافية وسيادة القانون، أن تلبي حاجات الناس وتطلعاتهم، ودونما تأخير. لننتقل من التحليل إلى الأمل إذن. كل الاحتمالات واردة. فالأحزاب التي تعد وتنجز الوعد ستنتخب ثانية وثالثة، وتلك التي تعد وتفشل ستخسر الرهان مع استحقاق. الأحزاب التي خسرت المعركة لم تخسر الحرب. بل أزعم أنها محظوظة بمعنى ما. فالمرحلة الانتقالية عادة ما تكون صعبة لثقل التركة الاستبدادية التي تراكمت على مدى عقود، وقرون. وأولئك البشر البسطاء الشرفاء الذين ضحوا من أجل التغيير لن ينتظروا طويلا. مفاجآت الطقس وتقلبات المناخ حتمية. لنرحب إذن بربيع الإسلاميين واثقين أن ربيع الأحزاب الأخرى قادم. ولن أتحدث عن دولة الاستبداد الديني لأنها لن تعيش طويلا في عصر يرفضها وسيحاربها بكل الوسائل.