وقف أمامنا بثبات قبل أن يبدأ محاضرته ينظر في أعيننا بهدوء كأنه يقرأ ما تحمله صدورنا من هموم وأسرار، ثم قال:» هل تعرضت لسرقة مشاعرك دون أن تُحرك ساكناً «؟! تبادل الحضور النظرات للحظات ثم ساد الصمت، وعادت أعيننا باتجاهه من جديد في ترقب، ابتسم وأخذ نفساً عميقاً وحرص على أن يخرجه من صدره بهدوء وبطء شديد جداً وكأنه يختبر صبرنا، أطال النظر قليلاً، ثم قال بابتسامة أنيقة تعتلي فمه: «كان عمري لا يتجاوز الخمس سنوات حين فتحت عيني على أخ يكبرني بسبعة أعوام وأخت تكبرني بخمس لأستيقظ على أول اكتشاف لي بأنني كنت الأخ الأصغر في الأسرة، والاكتشاف الثاني كان حين أدركت بأنني يتيم الأبوين حيث لقيا حتفهما في حادث مأساوي في أحد أيام الشتاء الباردة كما نقلت لي عمتي، عشنا جميعاً في بداية الأمر مع تلك العمة الطيبة ولكن سرعان ما غادرتنا لبلدة أخرى بعد أن تزوجت، حين بلغت الخامسة عشر وجدت نفسي محاصرا بتأدية واجبات عديدة في المنزل وكان ذلك الاكتشاف الثالث فعلى الرغم من وجود أخ وأخت يكبراني إلا أنني كنت أقوم بجميع مسؤوليات المنزل، فكنت أعرف كيف أصلح صنابير المياه وأفياش الكهرباء، وزرع وقص الشجر والحشائش في الفناء الخارجي لمنزلنا، والأهم كنت أقوم بكل شيء دون أن يُطلب مني ذلك، أحببت إخوتي كثيرا فهم بالنسبة لي الوالدان اللذان لم ألتق، ولم يطرق قلبي حبا سوى حبي لهما ولم أعرف من العاطفة سوى مشاعري الجياشة نحو عمتي الطيبة، في المرحلة المتوسطة اكتشفت اكتشافي الرابع حين بدأ زملائي يطلبون مني أن أكتب لهم أسماءهم على كتبهم ودفاترهم، فكنت أملك خطاً جميلاً، وكان أستاذي يقول لي مادحاً حين أسرع بالإجابة بأنني أملك ذكاءً متقداً. لم أكن أفهم معنى أن أمتلك عدة مواهب من تلقاء نفسي مع أنني كنت كثيرا أقضي أغلب وقتي في فناء المنزل أساعد وأدرس أبناء الجيران في تجاوز صعوبات تعلم بعض المواد، وأبسط لهم حل المسائل الحسابية بطريقتي المتواضعة، وما أسعدني حين شجعتني أختي على ذلك، وفي أحد الأيام عدت إلي المنزل بعد أن أنهيت آخر امتحان لي في المرحلة المتوسطة، لأجد أختي واقفة في فناء المنزل تقبض مالاً من أم أحد أبناء الجيران الذين اعتدت على تدريسهم، فلم أجرؤ على فتح فمي، ولكن اكتشفت وقتها اكتشافي الخامس بأن أختي كانت تتقاضى أجر عملي! حين وصلت إلى المرحلة الثانوية اكتشفت أن أخي كان يعتمد علي في كل شيء حتى بغسل ملابسه، وحين بدأت المسؤولية تكبر وبالكاد أتحملها، اكتشفت بأنني من صنع تلك المشقة والفوضى حين وضعت على عاتقي همّ إسعاد وإرضاء الآخرين لأنني كنت بحاجة للشعور بحبهم وكان ذلك اكتشافي السادس، لذلك سهلت لأختي استغلالها إحساسي الدائم بالذنب لتدفعني للقيام بأمور تصب في مصلحتها وتخدمها، وحين تزوج أخي وانتقل إلى منزل آخر انفردت بي تذكرني بالتضحيات التي قامت بها من أجل سعادتي! فتارة تلحن على شبابها الذي أهدر ولم تتزوج من أجل المكوث بجواري لتلبية طلباتي، وتارة أخرى كيف تخلت عن دراستها، ولم أحاول مجادلتها أبداً لدرجة أنها صدقت نفسها وهي تردد قصة تخليها عن دراستها الجامعية من أجلي، وفي المناسبات السعيدة كانت تحرص على ذكر أمور محزنة وتفتح صفحات من الماضي الباهت لتجدد أحزانها، وعندما توظفت سالت دموعها لتذكرني بأنها هي أكثر إنسان عانى في الأسرة، لتبدأ كل مرة بتكوين حالة ضبابية أمامي تشعرني فيها بالذنب طوال الوقت، فعلى الرغم من عملي الدائم على إسعادها لا تسعد، وفي أحد الأيام بدأت حالة ندب لحظها العاثر كالعادة شعرت وقتها بضيق شديد حين بدأ الإحساس بالذنب يتسلل إلي ويكتم أنفاسي. قاومت ضعفي ووقفت أمام مشاعري ونهضت متعمداً على إظهار ضيقي، فنظرت لها بغضب لكي تتوقف، وقبل أن أغادر المنزل فتحت فمي لأول مرة لأصحح لها معلوماتها بأنها فُصلت لعدم جديتها ولغيابها المتكرر وتدني درجاتها، ولم تتزوج لأنها كانت متعجرفة وعصبية واعتادت أن تهاجم أي شخص يتقدم لخطبتها، فتحت فمها ونظرت إلي باندهاش ولكن لم تستطع أن تنبس ببنت شفة «! أنهى محاضرته وقصته وغادر بسعادة! الاستغلال العاطفي يعد أخطر أنواع الاستغلال لأنك تسقط تحت تأثيره طواعية، وفي تلك الحالة تسمح بتمرير كذبة تتمكن منك في لحظة لا وعي أو ضعف، والمبتزون العاطفيون يعرفون مدى تقديرنا واهتمامنا بهم وكيف نحرص على إرضائهم واستمرار علاقتنا بهم، وهم قادرون على حجب الرؤية أمامنا لكي لا نرى الطريقة التي يستغلوننا بها، حيث اعتادوا على خلق جو ضبابي وغائم كئيب مليء بالأوهام كاف لحجب الرؤية لإلقاء كمية من التعاويذ المزيفة التي تجعلك تصدقها وأنت تعلم بأنها ليست حقيقية! لدرجة تضطرك للدفاع عن نفسك في موقف إدانة تجد نفسك محاصرا فيه وأنت في الأصل بريء، ولأنهم يعلمون جيدا بأننا تحت تأثير الخوف والالتزام والذنب ولن نتمكن من رؤية الحقيقة بوضوح، وأكبر خدعة يستخدمها المبتز العاطفي، إذا شعر بحاجتك إلى شيء من الاهتمام وبكثير من الحب، يوهمك أن فقدانك له سيسبب لك جرحاً وألماً وخواء عاطفي، وستكون وحيداً فريسة سهلة للذئاب التي ستتقاذفك لتنهش بك، وذلك ليس صحيح أبداً، لأنك ستشعر بمدى قوتك وبنشوة سعادة غامرة حين تتغلب على ضعفك متى ما تخلصت من تأثير تعويذته المزيفة عليك!