يربط كثيرون بين الدهاء والسياسة، وكأن كلاً منهما مرتبط بالآخر. يأتي ذلك من منطلق الافتراض أن السياسي لابد أن يكون داهية. والداهية صفة إيجابية تشمل الذكاء ورجاحة العقل، والتصرف المناسب والقدرة على اتخاذ القرار في الوقت الحاسم، إلى غير ذلك من هذه الصفات. الربيع العربي كشف كثيراً من الساسة العرب، وعلى ضوء التصرفات التي يقوم بها الحكام في التعامل مع الأحداث، لا يبدو أن صفة الدهاء أصبحت ملازمة لكثير من الساسة، ذلك أن ما يقوم به كثير منهم خلال الأحداث تؤكد أن لا دهاء ولا سياسة. الوطنية تتمثل بشكل أساس في حب الوطن والحرص عليه والدفاع عنه، وهي صفة ليست ملازمة للسياسيين. كما أنه ليس بالضرورة أن يعمل السياسيون من أجل أوطانهم، فكثير منهم يعمل لمصلحته الفردية، وتحقيق مآرب ذاتية، مادية أو معنوية، ولو كانت على حساب الوطن. في كثير من الأحوال يتم استبدال الوطن بالنظام، وتصبح الوطنية مرتبطة بمصلحة النظام ، وكأن الولاء له هي الوطنية الحقة، حتى ولو كان ذلك لا يصب في مصلحة الوطن، ولذا فإن المنتقدين للأنظمة الفاسدة ، والكاشفين لعيوبها، والساعين لخير الوطن والمجتمع، قد يتهمون بأنهم ضد الوطن لأنهم ضد النظام. هذا هو الوضع العربي في عمومه، ولذلك فقد ضاقت بعض الشعوب ذرعاً بهذا الأسلوب وهذه الطريقة في التعامل، فلم تكن قادرة على تحمل قمع الأنظمة، فجأرت بالشكوى وعلت أصواتها وطالبت بالإصلاح، وحين لم تجد من الأنظمة آذانا صاغية، بل وجدت مزيداً من التسلط، اتخذت طريق الثورة الجمعية، ولم تعد مطالباتها شيئا من العدالة والحرية والأمن والمساواة، بل أصبحت المطالبة أوسع وأكبر، وعلى رأسها إسقاط النظام القائم. لماذا تنتظر الأنظمة إلى هذه المرحلة، هل هذا هو الدهاء أم أنها السياسة، حتى أن أحدهم يعلن أمام شعبه، وكلهم ربما كذلك، «أنا الآن فهمتكم»! كيف لهؤلاء الساسة الدهاة أن يكون فهمهم متأخراً جداً، لا يصلون إليه إلا بعد أن يبلغ السيل الزبى؟ والأدهى والأمر أن الأنظمة ترفض الاستجابة، وكأن بقاءها هو بقاء الوطن، بل إن بعض الأنظمة تنظر إلى شعوبها الثائرة بأنها خارجة على القانون، ولذا، فإن هذه الشعوب لا تستحق المنع من التظاهر والتعبير السلمي فحسب، بل يجب أن يقضى عليها، وهذا ما أدى إلى المجازر التي راح ضحيتها الآلاف، كما يحدث هذه الأيام على أرض الشام. وكأن التغيير من أجل الحرية يحتاج إلى هذه الأثمان الباهظة جداً، التي عبر عنها أحمد شوقي في قصيدته الشهيرة: سلام من صبا بردى أرق ودمع لا يكفكف يا دمشق حيث يقول في ذات السياق: وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق