ماذا نفعل كمجتمع – ولا نقصد التعميم – بمن يأتي بجديد؟ كيف نتعامل مع من يقول كلاماً جديداً أو يفعل أمراً لم نعتده؟ الملاحظ ميلنا للعزل. والعزل هو سلاح البعض للحفاظ على استقرارنا (وعلى تلك الفقاعة اللزجة التي نسميها خصوصيتنا). كل المجتمعات تقاوم بدرجات مختلفة جديدها في محاولة لصده عن الالتصاق بنسيجها، وفي النهاية قد تنجح في وأده وقد ينجح في تثبيت أوتاده في فضائها ويرسخ. وأنا لا أتكلم هنا عن الجديد باعتباره بدعة حسنة ولا بدعة سيئة بل أتحدث عن كل بدعة دون استثناء. وحيلتنا المحلية كمجتمع لعزل وقمع المختلف هي التصنيف تمهيداً للإقصاء. وهذا التصنيف يتم عبر عملية مزج عجيب بين علم الأنساب العربي الذي إن لم يعرف لإنسان ستة عشر جداً اعتبره «فقع» وبين شيء من الجرح والتعديل في علوم رواة الحديث قديماً، لكنه البحث الذي يفضي إلى الجرح كل مرة لا إلى التعديل. وهنا كارثة قد تمزقنا كمجتمع وتغذي التشرذم فينا. النبش في ملف المختلف جرجرناه من تاريخنا الجاهلي حتى «كشغري» الذي أوجع أناسا في مجتمعنا بإقصائه عوائل كثيرة لا بيتاً واحداً ملطخين بسواد ظنوننا شقاً من قارة آسيا لا المخطئ بعينه. هذا سلوك جاهلي ضارب بجذوره إلى ما قبل الإسلام الذي حاول تخليصنا منه ونرفض. والوجه الآخر لهذا السلوك كان في تواطؤ شرائح مجتمعية عريضة على عدم تجريم سلوك مشابه لسلوك «كشغري» حين صدر عن امرأة ذات نسب مكررين مشهداً قرآنياً كفت فيه أقوام سابقة عن عزل وقمع سلوك لا تحبه خوفاً من قبيلة صاحب الفعل «لولا رهطك لرجمناك». المرأة لم تسجن، ولم يتعد عقابها بعض اللمز في تويتر. مع المختلف يميل بعضنا للبحث عن مأخذ لتجريمه ورميه في أخدود القهر: إن لم يكن أصله فسيكون لونه!. في مقالي السابق لم أؤيد مظاهرة تسعين ولم أرفضها لأن نظرتنا الآن وتقييمنا اختلف وسيختلف في قادم الأيام حين نملك أدوات كتابة التاريخ. ما رفضته حينها وأرفضه اليوم هو بشاعة بعضنا في عزل المختلف ولو وصل بنا ذلك حد تدميره نفسياً. تحكي لي أستاذة أخرى من داخل جامعة سعود عن تطاول الطالبات على الأستاذات اللآتي شاركن في مظاهرة قيادة السيارات! كمعلمة لا أتخيل الأذى الحاصل وقتها، وكانت تحدثني عن تطاول بالكلام، لا في قاعات الدرس بل مطاردة حقيقية في ممرات الجامعة بكلام بذيء ومناصحة هي صحائف تجريم، تنسى بها طالبة العلم أنها تخاطب أستاذة، تنسى أنها في عمر والدتها، تنسى أنه مكان تربية. والأسوأ أنها تتقرب به لله، وتنسى أن الله قال «بالموعظة الحسنة». وذاكرة المجتمع تنسى منذ سنة تسعين وقبلها وحتى اليوم، والكلام الذي جرحت به نساء سنة تسعين هو بذاته الذي جرحت به منال الشريف إلا أنه واستفادة من التقنية استبدل قوائم الأسماء والأرقام وورق التصوير بمقاطع اليوتيوب في النت واللغة ظلت في كثير من مفاصلها هي اللغة! مرة أخرى أنا لا أقيم خطوة منال، أنا أدرس رد فعل مجتمع يمزق نفسه وينسى. نحتاج كمجتمع – ونحن نعتبر أهم سمة لخصوصيتنا تديننا – أن نستخدم معايير دينية وإنسانية لتقييم الجديد ومعرفة كيف سنتعامل معه. القرآن في كثير من المواضع يرفض اتباع القديم ويدين من يردد «وجدنا آباءنا كذلك يفعلون». وكما يرفض عذر متبع أسلافه الذي يتخذ اتباعه لهم بديلاً للتفكير بنفسه. والقرآن يرفض عذر متبع معاصريه ويوقفنا مرات عديدة بالصورة على تلاوم هؤلاء في النار وتبرؤ بعضهم من بعض يوم لا ينفع الجميع عذرهم. ثمة مشكلة أخرى في دفع وقمع الجديد أنه إذا كان من أتى بالجديد امرأة فإن قمعها قد يأخذ – لدى البعض – طابعاً جنسياً! ويكون تجريحها أشد أذى لها ولأهلها، وينسى مجتمعنا بذاكرته التي قلت مراراً إنها «مخرومة» كيف أراد منافقو المدينة طعن الرسول – صلى الله عليه وسلم – بعائشة – رضي الله عنها – في حادثة الإفك الشهيرة، وكيف أثنى القرآن على سلوك امرأة رفضت هذا المنحى الجنسي للتهمة فقالت ونقل عنها «ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم». اعتبرته بهتاناً لأنها لم تسمع كلام الجميع لتردده بل فكرت فيه وقارنته بسلوك عائشة الذي تعرفه وحين لم تجده مطابقاً رفضته وامتنعت عن الخوض فيه. فلنقف لحظة يا سادة ولنكن هذه المرأة حين يشرّح مجتمعنا بعضه البعض!