«الترويكا» مصطلح يطلق في تونس على الائتلاف الحاكم الذي يجمع حركة النهضة بحزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يقوده رئيس الدولة الحالي الدكتور منصف المرزوقي، وحزب التكتل من أجل الحريات والعمل بقيادة رئيس المجلس الوطني التأسيسي. وتعدّ هذه صيغة فريدة في التجربة السياسية التونسية. فمنذ الاستقلال وبناء الدولة الوطنية لم تعرف البلاد سوى هيمنة الحزب الواحد الذي لا يتحمل أي شريك في الحكم. ولهذا كان من المتوقع أن تشهد هذه الصيغة حالات ارتباك قد تقترب أحياناً من لحظة التصدع والانهيار مثلما حصل في الأيام الأخيرة حين فكر المرزوقي في الاستقالة احتجاجاً على إحساسه بتجاهل دوره من قِبل رئيس الحكومة المهندس حمادي الجبالي، لكن حرص الأطراف المشاركة في الائتلاف على الاستمرار في دعم التجربة مكّنها من تجاوز حالة الانهيار الوشيك. ويمكن الآن بعد أكثر من ستة شهور على هذه التجربة، التوقف عند أهم نقاط القوة والضعف فيها. التجربة ليست سلبية في المطلق، كما أنها لا تخلو من طرافة. ولعل أهم ما ميزها هو التقاء ثلاثة أحزاب مختلفة في مرجعياتها الفكرية ولكنها التقت حول برنامج سياسي عام لإدارة المرحلة الانتقالية، وهو ما سوّق صورة إيجابية عن تونس في الخارج، حيث حيا كثيرون هذا التعايش والتحالف بين إسلاميين وعلمانيين، ورأوا فيه مؤشراً على نضج النخب السياسية في تونس. لكن في مقابل ذلك، أظهرت الوقائع أن نظاماً سياسياً بثلاث رؤوس له تداعيات سلبية على أكثر من صعيد، وقد يؤدي أحياناً إلى إضعاف مؤسسات الدولة بدل أن يقويّها ويعزز من مكانتها لدى المواطنين. إذ بالرغم من أن ما سمي بالدستور الصغير الذي تمت صياغته لإدارة المرحلة الانتقالية قد تضمن آليات لتنظيم العلاقة بين هؤلاء الرؤساء، وحسم الخلافات المتوقعة بينهم، إلا أن ما حدث مؤخراً قد أظهر صعوبة التعايش بينهم لأسباب متعددة. المشكلة الرئيسية التي كشفت عنها الوقائع تتعلق بالصلاحيات، التي هي جوهر السلطة. فكلما كانت الصلاحيات أوسع كان النفوذ أكبر، وكلما تقلصت تلك الصلاحيات أصبحت ممارسة السلطة منقوصة. وبما أن الشركاء الثلاثة لا يتمتعون بنفس الوزن داخل المجلس الوطني التأسيسي، فقد انعكس ذلك على تقسيم مساحات السلطة والنفوذ. وقد قبل الطرفان الضعيفان بهذه القسمة منذ البداية، وذلك لحساب حركة النهضة ذات التوجه الإسلامي، وكانت النتيجة أن فوّت كل من المرزوقي وبن جعفر الفرصة على حزبيهما الذينِ كان بالإمكان أن يكون حظهما في الحكومة أكبر وفي الصلاحيات أوسع، لأن حركة النهضة كانت بعد انتصارها في الانتخابات الأخيرة في حاجة مؤكدة لحزبي المؤتمر والتكتل من أجل توجيه رسائل طمأنة للعالم، وخاصة لواشنطن ودول الاتحاد الأوروبي. المهم هو أن مركز الثقل الرئيسي الآن هو في القصبة (مقر رئاسة الحكومة) وليس في قرطاج (محل إقامة الرئيس المؤقت للبلاد). كذلك يلاحظ أن حركة النهضة مؤمنة بالشراكة مع حليفيها لكنها في الآن نفسه غير مستعدة للتنازل عن دورها المحوري في قيادة المرحلة الانتقالية، حتى ولو أدى ذلك إلى إثارة غضب أحد شريكيها أو كلاهما، وهو ما حصل مؤخراً مع رئيس الدولة في حادثة تسليم رئيس الحكومة الليبي السابق البغدادي المحمودي الذي سلمته الحكومة التونسية بدون موافقة المرزوقي ولم يقع حتى إعلامه أثناء عمليه التسليم، وهو ما أدى إلى انتفاض جزء مهم من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي، حيث تقدم حوالى ثمانين نائباً بلائحة سحب ثقة من الحكومة في محاولة لإسقاطها. كما أن رئيس الحكومة الذي هو في الآن نفسه الأمين العام لحركة النهضة، دفاعاً عن صلاحياته الواسعة، كان مستعداً لقبول استقالة أحد الوزراء القريبين جداً من الرئيس المرزوقي احتجاجاً على ما عدّه تحديداً لمهامه، لأن ما طالب به هذا الوزير (محمد عبو) الذي وضعه بن علي في السجن بسبب مقال انتقده فيه وشبّهه بشارون، يتعلق بإنشاء هيئة عليا للرقابة الإدارية، وهو الاقتراح الذي رأى فيه بعض وزراء النهضة تحويل وزارة الإصلاح الإداري التي كان يديرها عبو إلى وزارة قوية تشرف على بقية الوزارات، وهو ما يجعله على خط تماس مع دائرة نفوذ رئاسة الحكومة. الخشية كل الخشية هي أن تتواصل معركة الصلاحيات كلما اقترب موعد الانتخابات. لأن كل طرف من أطراف الائتلاف الحاكم سيسعى إلى إبراز دوره، سواء لاقتسام المكاسب التي قد تسفر عنها التجربة خلال الأشهر المتبقية، أو للتبرؤ من الانتكاسات المحتملة، مما يضعف روح الفريق، ويحول السلطة إلى منصة سباق، لكل طرف حساباته ومصالحه. إن النظام الحزبي شرط من شروط الأنظمة الديمقراطية، وبدونه تهيمن الأحادية والاستبداد. لكن التعددية الحزبية يمكن أن تتحول إلى معضلة وتؤدي إلى إيجاد حالة من عدم الاستقرار السياسي، تزيد من إضعاف الدولة وفقدان ثقة المواطنين في نخبهم السياسية. وهذا خطر لابد أن يستحضره السياسيون، سواء في السلطة أو في المعارضة، قبل أن تغرق السفينة بالجميع.