من المألوف جداً أن ترى الوجوه العربية في كل مكان في «باريس»، الباعة عرب، سائقو التكاسي عرب. ومن يرتشفون أقداح القهوة في المقاهي المتناثرة عرب. وحتى الأصوات التي ستسمعها قريبا من قصر الإليزيه، حيث يوجد الرئيس الجديد «فرانسوا أولاند»، هي لعرب مشاغبين لا يكفون عن التظاهر مع سواهم بلغة الحقوق والسياسة، أو هم مقيمون غير شرعيين يتجمعون للمطالبة بالاعتراف بهم، ففي أوروبا نحو 15 مليون مهاجر من أصول عربية، وفي فرنسا وحدها نحو ثلاثة ملايين عربي. في باريس يرفع العرب أيضا أعلام بلدانهم في الساحات متضامنين ومتفاعلين مع أحداثها البعيدة القريبة منهم، إما غاضبين أو محتفلين مع أحداث الربيع العربي، تماما كما حدث عند فوز الرئيس المصري «محمد مرسي» مؤخرا، فرفعت الأعلام المصرية وضج الشارع بأبواق السيارات. إذا ما تحدثنا عن فرنسا، فإننا كعرب، يأتي على أذهاننا ثلاثة أمور، الصراع الفكري بين العلمانية الفرنسية وبين رمزيات دينية، أو الهجرة بالنسبة للباحثين عن الرزق أو اللجوء السياسي، أو المصيف الأنيق بالنسبة للخليجيين، هم الذين تعج بهم الفنادق كل عام «لو كف الخليجيون تحديداً من التسوق في باريس، لأغلقت كثير من محلات الشانزليزيه أبوابها». يقول رينيه الفرنسي، في فرنسا وفي البلدان الغربية الأخرى، يجيد العرب المهاجرون التحدث بلغة الحقوق السياسية أكثر من بلدانهم، تجدهم يطالبون بكل شيء، يتجمهرون، يحتجون، يضربون. ولا عجب أن تجد أغلب العرب يساريين في بلاد الغرب يطالبون بحقوق «الجميع» الذي يشملهم، لكنهم يمينيون في البلاد العربية يطالبون بحقوقهم الفئوية فحسب. وهذا ما أظهرته أول انتخابات عربية حرة في تونس ومصر، وغيرها من التجارب القادمة. ارتبطت بالعرب صورة مثيري المتاعب في فرنسا في السنوات الأخيرة، بالنسبة للأوروبيين، خاصة أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين، لأن الجيل الأول كما يعتقد بعض الفرنسيين حارب تحت علم فرنسا ويكن «انتماء حقيقيا» لها. وهم يشكلون «غالبا» خليطا من المغاربة والجزائريين والتونسيين واللبنانيين. لكن ذلك لا يمنع الفرنسيين مثلا من إخفاء فخرهم بانتماء «زين الدين زيدان»، إلى أرض فرنسا وهو الجزائري العربي الأصل، هذا إلى جانب الوزراء والوزيرات ذوي الأصول العربية أو الذين يشغلون مناصب سياسية رفيعة في كل حكومة لرئيس جديد، فيبرزون بذلك التنوّع العرقي والثقافي الفرنسي. تعاني مجتمعات كثيرة في العالم بشكل متباين من سياسة الاضطهاد، سواء تلك القومية أو الدينية أو حتى السياسية، فيبحث بعضهم عن بلد أكثر استقرارا. وليست فرنسا استثناء في قائمة البلدان التي تمنح حق اللجوء السياسي. ولكن لا تنتهي مشكلات اللاجئين بعد حصولهم على اللجوء. وحين ترفض دولة أوروبية كمضيفة أولى لجوء أي شخص، فإن دول الاتحاد الأوروبي جميعها ترفضه، وقد تحول هذا إلى قانون، وهنا يبدأ الصدام. يعتقد العرب أن عنصرية ما تمارس ضدهم في المجتمعات الأوروبية، لكنني لا أعتقد أن على العرب أن يشعروا بذلك في مجتمع أوروبي علماني كفرنسا، فشعور الأولوية من المواطنين الأصليين عادة شعور بشري طبيعي في كل بلاد العالم، وفي بلداننا العربية نفعل ذلك، فكيف إذا كانوا في نظرهم مثيري مشكلات ومخاوف؟ في هذه الحالة يغطي الرديء على الجيد. العرب وإن أضاف بعضهم إلى المجتمعات التي يفدون إليها بعداً اقتصادياً وعلميا مقدرا، إلا أن قلة منهم يضيفون مشهداً مشوهاً للمجتمع الأوروبي الذي اختار غير مكره أن يكون «علمانيا» يقدر الأعراق والإثنيات دون تمييز للدين، الذي هو شأن فردي، وأن لا تمس رموز الدين بالأمن القومي بأي حال من الأحوال، كشأن النقاب مثلا، الذي برغم حظره، فإن القضايا يبدو أنها لا تنتهي، فترى بعض السائحات الخليجيات أيضا منتقبات وتسعى لفرض المشهد. والنقاب على أية حال، ليس سوى رمز مختلف عليه. هناك حساسية ما تجاه هذه الرموز الدينية، التي قد يحصل بينها تماس مع السياسة بصورة أو بأخرى، وهو أمر مرفوض في القانون الفرنسي، وهذا ناتج عن تاريخ عصيب جدا للدولة انتهى بالفصل بين الكنيسة والسلطة أو بين الدين والسياسة، والبعد عن رمزيات جميع الأديان. من المثير إذا ما علمنا أنه، وبحسب تقديرات المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، فقد تم في السنوات العشر الأخيرة بناء ما يقرب من ألف مسجد في فرنسا، وعدد المصليات والمساجد بكل أحجامها يتجاوز اليوم ألفين وثلاثمائة، وذلك بمساندة «معنوية» من الحكومة الفرنسية، حيث من قانون فرنسا العلمانية أن لا تمول «خزينة الدولة» أي مشروع ديني لأي معتقد. أعتقد أنني «في المجمل» أحيي سياسة تجمع وتقبل كل هذا التنوع العرقي والديني الشائك، وتسعى للعدل مهما بلغت تعقيدات الأمور. وإلى فرنسا «أرفع القبعة».