ما زلتُ أحتفظ في جيبي بتلك العملة الورقية الأنيقة من فئة عشرة فرنكات سويسرية، منذ زيارتي لتلك البلاد في 2011 م. أما سبب احتفاظي بها إلى الآن فليس فقط لأناقتها وجمالها بل لصورة الرجل صاحب النظارات الدائرية الذي يظهر عليها ويحتل نصفها. لقد اكتفت سويسرا بوضع صورة «معماري» على عملتها الرسميّة، إنه المعماري العظيم لو كوربوزييه (Le Corbusier (1887-1965 . صاحب التصاميم الجميلة والمدرسة الرائدة في زمنه، الذي اشتهر بإيجاد حلول للمدن المزدحمة، الذي درَسنا عنه كثيرا في الجامعة وقرأنا عنه في الكتب والدوريات المعمارية. للمعماري في دول الغرب كل هذا الاحترام والتقدير والمكانة، بينما عندنا يشقى ويكافح حتى يتمكن من بناء نفسه في المكاتب الهندسية الصغيرة والمتوسطة، التي تبيع التصاميم شبه الجاهزة بألفي ريال، ويحصل على راتب زهيد مقارنةً بغيره من زملائه المهندسين، مع أن المعماري لا يقل أهمية عنهم! ثم إذا بقي شيء من موهبته بعد العمل في تلك المكاتب التي توزّع التصاميم المعلّبة، قد يحالفه الحظ في العمل في أحد المكاتب الهندسية الكبيرة وينطلق هناك في الإبداع المعماري الحقيقي، حيث يكون الاعتناء بالجمال البصري وعمق الفلسفة في التصميم جنباً إلى جنب مع الاهتمام بتقسيم الفراغات ومراعاة الميزانية. ومع ذلك فكثير ما نرى تصميم «المكعّب» في أي شارع نسير فيه. تبدو تصاميم المباني مستنسخة من بعضها البعض بالذات في الفلل السكنية، وقد نعذر أصحاب البيوت في هذا، فهم كافحوا لتوفير تكلفة الإنشاء ويريدون استغلال كل متر من الأرض لضيق المساحة وغلاء سعر الشراء للمتر المربع! وشكل المكعّب كما ذكرنا هو أفضل ما يحقق ذلك. أما بالنسبة للمشروعات العملاقة، فالمكعّب موجود أيضاً، ولكن هنا يكون العتب على المؤسسات الخاصة والشركات ذات الميزانيات الضخمة التي تستطيع توفير الميزانية المناسبة لخلق ذلك المبنى «المَعْلَم» ذي التصميم الجريء، الذي يرغب كل زائر للمدينة أن يقف أمامه متأملاً، وتكتب عنه المجلات المعمارية المتخصصة ويكون ملهِماً لطلاب العمارة من بعده. لا شك أن برجي الفيصلية والمملكة في الرياض الذَين انتهى البناء فيهما في العامين 2000 و 2003 م على التوالي، هما من أهم المعالم الحديثة في السعودية. ولكن منذ الانتهاء منهما إلى الآن لم يتميّز غيرهما بنفس المستوى من المشروعات، وإذا قارنّا ذلك بمدن عربية مجاورة نجد المعالم المعمارية المميزة تظهر هناك كل سنة وتحمل معها تصاميم خلّاقة وإبداعات في الفكرة والتصميم. عند البدء بأي مشروع، فإن المالك غالباً ما يكون لديه معياران أساسيان لاختيار التصميم المعماري: تكلفة التنفيذ، واستغلال كل متر من الأرض. وهذا لا ضير فيه، ولكن المشكلة تبدأ عندما يصبح ذلك على حساب جمال التصميم والإبداع في الفكرة. فالمالك هو من يمسك ب «الفلوس» في يده، وهنا يضطر المعماري أن يسايره في تبسيط التصميم من أجل تخفيض النفقات، حتى يتحوّل المبنى في النهاية إلى ما يشبه المكعّب، وهذا ما يجعل عنصر الابتكار والإبداع يغيب أو يتقلّص. حركة العمران هي انعكاس لمستوى التفوّق الاقتصادي للبلاد وقبل ذلك هي مؤشّر على مدى التقدّم الهندسي والإبداع في التصميم والتنفيذ. وكل هذا يبدأ بين أصابع المعماري… فأعطوه فرصة.