والتقيت رجلاً لم تذهب صورته من ذاكرتي رغم مرور أكثر من أربعة عقود على موقف حدث لي وصديقي معه، كنا في سوق السبت في مدينة بالجرشي نسير في طرقاته فوجدنا رجلاً يقود حماراً بطريقة مختلفة ومستفزّة فهو يمسك برباط الحمار ويسير على الجانب الأيمن للطريق والحمار على الجانب الأيسر والرباط يقطع الطريق على المارة، فليس أمام الماشي إلا تفادي الحمار للمرور من جانبه أو تفادي صاحب الحمار. فاحتج صديقي على هذا الوضع فما كان من الرجل إلا أن أطبق على رقبته وأوسعه ضرباً ب (مشعاب) كان يحمله وتدخَّل الناس لفضّ الاشتباك وأجمعوا على خطأ الحمار وصاحبه. ثم عرفنا أنه من أشهر (تجار الحمير) في السوق عندما كانت الحمير الوسيلة الأهم للنقل في المنطقة منذ أكثر من نصف قرن. لأن طرق السيارات محدودة ولا تصل لكل قرية في المنطقة التقيت تاجر الحمير صدفة وقد بلغ من العمر عتيا وسألته عن أحواله وعياله فشكا من (عقوق العيال) ومن سوء الحال غير أنه تحوَّل إلى تاجر طيور يعرف أنواعها وألوانها وفوائدها وأصغيت إليه بعناية وهو يحدثني عن البلابل والكناري والببغاء وطيور الزينة وتذكرت تلك الأوصاف التي كان يطلقها على الحمير وأنواعها وأنسابها وقوَّتها. تنهد الرجل أسفاً على الماضي حيث قال: كان في تجارة الحمير كل الخير والبركة وكنا نتعامل مع (شمطان اللحى) أما اليوم فالبضاعة ضعيفة والزبائن شباب مائع أو نساء يبحثن عن التسلية، صحيح أننا نبيع الطير الواحد بثمن مرتفع يفوق أضعاف ثمن أفضل الحمير في السابق، لكن يا ولدي ليس مثل الحمير تجارة ولا مثلها صداقة!. قلت في نفسي سبحان مغير الأحوال فبعد النهيق والرفس أصبح يسمع أصوات البلابل والحمام. وقبل أن أودعه قلت له: مهنتك هذه لا تمكنك من سد الطريق كما كنت عندما تعرفت عليك. قال: لقد تركت الحمار والرباط والمشعاب.