لقرون عديدة، كان رجل الدين -ولم يزل- هو الأيقونة المؤثرة والمهمة في بعض النظم الاجتماعية، وكان يلعب دور المشرّع والمثل الأعلى لأفراد المجتمع، حتى أنزلت عليه قدسيّة خاصة من قبلهم، فجُعل الحديث عنه أشبه بجريمة انتماء، ومؤامرة غربية، ودسيسة قد تهدد وتزعزع مكانة الشخص وقيمته وانتماءاته الدينية والسياسة والاجتماعية. وكان الأشخاص يرون في أنفسهم التقصير دائماً، ويتطلعون لرجل الدين على أنه الشخصية التي يتمنّى الجميع الوصول إليها، أو نيل هذه الحظوة الربانية التي اختص بها. تلك القدسية، التي اكتسبها حتى من يتحلّى ببعض مظاهر الدين الخارجية، كاللّحية والثوب القصير، جعلت هناك نظاماً عرفياً صارماً شبه متفق عليه من الجميع، يحدد قيمة الإنسان الاجتماعية، وتُبنى عليه الأسس والمعايير الاجتماعية لقبول الأشخاص أو رفضهم. فلم يكن من المستغرب أبداً أن يتحول فرد يرأى أن المجتمع غير سوي وعديمَ القيمة، إلى رجل صالح، يُشار إليه في المجالس والمساجد ومؤسسات المجتمع، فقط لأنه أعفى لحيته، وتحوّل إلى رجل دين. فلم يكن المجتمع يغيّر قيمة الشخص الاجتماعية وحسب، بل يأخذ هذا المظهر -غالباً- كمؤشر على أهلية الشخص وعلمه، فتراه يُستفتى من العامة، وتُؤتى إليه زكاتهم وصدقاتهم، وربما تسابق إليه الآباء ببناتهم؛ ليحظوا بهذا النسب المبارك، وهذه الرفقة الصالحة. وقد لعب الكثير على هذا الوتر الحسّاس لدى هذه المجتمعات، فاستغلوا حب الناس للدين ورجل الدين، وعاطفتهم العمياء تجاههم، فأساؤوا للدين ولمكانة رجل الدين، وللمجتمع الذي أولاهم هذه الثقة. ولأن رجل الدين في بعض المجتمعات أصبح أداة كبرى لتحريك الناس، ظنّ البعض أن في نقد رجل الدين تعدياً على الدين نفسه، وأن آراء العلماء وكلامهم أشبه ما تكون بالمعصومة فلا يجب المساس بها، ولا تعدي حرمتها. فصار رجل الدين، مع كل تلك القوة والسلطة الاجتماعية المتاحة له، شخصاً غير محسوب الأخطاء. ولم يجد بعضهم فرصة للتقييم، فبالغوا، وتجاوزوا، وصاروا يخوضون في كل علم، ورأي يقبل هذا ويرفض هذا، يُدخِل هذا الجنة، ويمنعها عن ذاك. ولأن العالم تغيّر، وانقلبت مفاهيم القوة، والوصول للعامة، بدخول الإعلام والفضائيات، والعالم العنكبوتي الذي أصبح المصدر الأول للمعلومة في كل مكان. وجد بعض هؤلاء الرجال أنفسهم في مأزق النقد، وإعادة التقييم، فأصبح بعضهم ينافس الممثلين والمغنّيين والإعلاميين على الضوء، فترى بعضهم يتخبّط، ويصدر فتاوى هنا، وينقضها هناك، يتغيّر رأيه قبل انتشار الخبر وبعده، وقبل القرار وبعده، يشنّ هجومه الشرس على هذا ويكفّره، ويمتدح الآخر ويعلي من شأنه. يلوي عنق الآية والحديث، ويعيد تفسيرها حينما يستخدمها آخر في تحليل فكرته وفتواه. ومن الإنصاف أن نذكر أن هناك من رجال الدين من استخدموا هذا الخاصية الحديثة، فانفتحوا في رؤاهم، وأصبحوا أكثر منطقية وتقبلاً وممارسة للشريعة السمحاء، التي تقبل الجميع، وتفتح بابها للعامة قبل رجل الدين نفسه.