العلم صيد وقد أحسن من بنى نفسه معرفيا، والكتابة فن وإبداع، قد يخيب فيه من تخرَّج من أعظم الجامعات، وقد ينجح فيه من تدفقت عنده موهبة الخيال، واختيار الكلمات، وعظيم الأفكار، من كونه لا يبيح أسراره إلا لمن أناب وانساب، وفهم عظيم الحكم المخفية القريبة بتعبير ابن خلدون. مع هذا لا تتدفق الكلمات إلا من بحر عظيم الماء بعيد الشواطئ، بعد طول المران وصقل العبارات. أذكر في يوم أنني عكفت على مقالة بعنوان سفينة تغرق لماذا يهاجر المواطن العربي؟ وكنت في مونتريال في كندا أقرأ المقالة لعائلتي فما زلنا ننقح ونراجع ونضيف ونحذف، وكان أصعبها قص الكلمات وضغط الجمل، حتى ولدت فكانت بدعا من الكتابات، بعد تغيير وصل إلى عشر مرات، ويومها نشرت المقالة في جريدة الشرق الأوسط واعتبرها الراشد أفضل ما كتب في ذلك العام! وكانت تتحدث عن هجرتي إلى كندا بعد أن لم يبق لي وطن ومواطنة في بلدي المنكوب بالسرطان البعثي، وأعظم الكلمات ليس تلك التي تأتي تزويقا وزينة، بل التعبير بصدق وعفوية وبساطة عن الواقع فهذا أعظم الجمال. هناك من يبدع ويصعق إذا تكلم، ويروى مثل هذا عن هتلر المشهور فقد روى نائبه رودولف هس بعد موت زعيمه بنصف قرن أنه كان إذا خطب حلق بهم في غمام الدموع وإذا غضب نزل بهم إلى مهاوي الردى. وبفعل التقنيات الحديثة يمكن الاحتفاظ بالصوت والصورة، ولكن الكتابة هي المصيدة الفعلية لعظيم الأفكار فتبقى محصورة بدون ظلال وإضافات، وأنا شخصيا تأثرت بالعديد من الكتَّاب، منهم من كان عميقا ولكن جافا ومنهم من كان ساحرا، وأنصح شخصيا قرائي باثنين من العرب الأول ليبي هو الصادق النيهوم والثاني العراقي الوردي، وأظنهما لو عاشا لفرحا بنهاية صدام بالصدمة، والقذافي بقذف طير أبابيل جعلته كعصف مأكول.