عندما يُختزل الدين فقط في التركيز على التمايُز والاختلاف بين المذاهب الإسلامية، تذهب جوهرة الدين الحقيقية التي تنهض بالأمم، وتختفي وتضمحلُّ قيمَه تحت وطأة الصراع والغلبة. ويصبح الدين أداة للعنصرية والفرقة والبغي بين الناس وتجاوز الحدود الإسلامية، أو حتى للاعتداء والقتل، وسبباً للغفلة عن واجبات الإنسان وتكليفه الحقيقي ولنا عظة من السابقين،في قوله تعالى: (أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) فالدين هو مجموعة من القيم التي يؤمن بها شعبٌ ما، وهي التي تصنع واقعه ومستقبله، وتقدُّمَه أو تأخُّره. فإذا سادت القيم الصحيحة التي دعا لها الأنبياء والرسل والصالحون كالصدق والعمل والعلم والتسامح والأمانة، فإن تلك الأمم تتقدَّم ويصلح شأنها. أما إذا سادت القيم الفاسدة كالكذب والغش والنفاق والكسل والجهل، فإن تلك الأمم لا محالة من تخلُّفها وتقهقُرها، وسوء واقعها ومستقبلها. فعندما تتقدَّم أممٌ كاليابان مثلاً، فذلك بسبب تمسُّكهم بالقيم الصحيحة التي يحملها أبناء ذلك البلد. وعندما تتراجع بعض الأمم وتتخلَّف عن ركب الحضارة، كحال بعض البلاد الإسلامية فذلك للقيم التي يعتقدها الأفراد في تلك البلاد بغض النظر عمّا يدّعونه من دين، أو ما يرفعونه من شعائر دينية. فالدين هو القيم، وليس فقط مجموعة العبادات التي يقوم بها الإنسان. بل إن العبادة جزء لا يتجزأ من الدين، ومن الخطأ إغفال قيم الدين، واختزاله في رهبانية منفصلة عن الواقع. وإذا كان قلب الإنسان مليئاً بالقيم السيئة، فإن حسابه يوم القيامة سوف يكون عسيراً ولن تنجيه عباداته. وفي حديث عن الرسول الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (يَا عُثْمَانُ لَمْ يُرْسِلْنِي اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّهْبَانِيَّةِ ، وَ لَكِنْ بَعَثَنِي بِالْحَنِيفِيَّةِ). فالرهبانية في العصر الحاضر هي الاهتمام بالعبادات وإغفال وطمس قيم الدين. والأسوأ من هذا استغلال الدين للفرقة والصراع بين مكونات المجتمع الإسلامي، والبغي على الحقوق، وتجاوز العدل وقيم الدين. إن الغرب يستغل قابليتنا للفرقة والعنصرية، فيعيد صياغة الجاهلية التي كانت قبل الإسلام إلى جاهلية دينية، يتمزق فيها المجتمع الإسلامي ويتفرق على أساس طائفي والله تعالى يحذرنا من ذلك ويقول في محكم التنزيل:(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). فالغرب يعمل على توظيف بعض رجال الدين لتغييب الأمة الإسلامية عن ما يتقدم بها، والتركيز على ما يفرق الأمة إلى كنتونات مذهبية وطائفية، يُهلك بعضها بعضاً، ويسحق بعضها البعض الآخر. ويعمل على توظيف بعض رجال الدين لإبعاد الناس عن حقيقة الدين وقيمَه وما يحمله من أخوّة وألفة بين الناس، واختزال الدين في الرهبانية البعيدة عن القيم والواقع، والتركيز على التمايز والخلاف والفرقة والصراع المذهبي، والغفلة عن ما يحاك بالأمة وثرواتها، أو التقدُّم بواقعها ومستقبلها. وعندما ينجرُّ بعض رجال الدين في الأمة لمثل هكذا صراع، فإن الأتباع سوف ينخرطون في هذه الصراعات بكل عاطفة وحماس. وإن خطر الصراع المذهبي، وهو إن لم يؤدِّ على أقل تقدير إلى تفريق الأمة وضعفها وإضعاف شوكتها من الداخل، أو أن يؤدِّي إلى صراع وحرب أهلية، فإنه إلى حدٍ ما يؤدِّي إلى الغفلة عن المصلحة والتكليف الحقيقي الذي هو على عاتق كل فرد من أبناء الأمة لبنائها وخدمتها. وهناك فرق شاسع بين الدعوة للتدين من أجل الإصلاح والتهذيب وإقامة القيم الدينية وخدمة الأمة الإسلامية، وبين الدعوة للتدين من أجل الغلبة بين الفرق الإسلامية والتدافع والبغي بين الناس. فالدين هو العدل في كل أمور الإنسان، وليس من الدين ما يدعو إلى البغي بين الناس من أجل بعض الاختلافات الفقهية أو الشرعية أو الدينية. فالحنيفية دينٌ يدعو للعدل والتوحيد والوحدة. (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) سورة البينة.