يحب الناس السكنى بجوار المسجد، ويرون أن من سعة الحظ وحسن التوفيق أن يحظوا بمنزل قريب من مكان أداء العبادة، ويزداد هذا الحظ كلما كان المنزل أقرب فأقرب، وربما يتباهون بذلك، على الرغم من الحديث الوارد في صحيح مسلم والذي أدرجه تحت باب (فضل كثرة الخطا إلى المساجد)، حيث أخرج الإمام مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، قال: والبقاع خالية، فبلغ ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا بني سلمت دياركم تكتب آثاركم» ، فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا هذا مع كون البقاع خالية حول المسجد كما هو وارد في الحديث! ولكن هذا لا يعني أن السكنى قرب المسجد ليست أفضل على الإطلاق، ولا كانت بعيدة عن المسجد أفضل على الإطلاق، وفي المسألة تفصيل ليس هذا مكانه. يقول الإمام النووي في شرح هذا الحديث: «معناه الزموا دياركم فإنكم إذا لزمتموها كتبت آثاركم وخطاكم الكثيرة إلى المسجد». هذا استطراد رأيته مفيداً، مع الإشارة إلى أن سكنى المنازل اليوم تحكمها ظروف أخرى ليست هي فقط القرب من الجامع، فسعة الدار ومناسبة الإيجار وغيرها هي دواع أيضاً إذا رافقت جوار المسجد كانت نوراً على نور!. غير أن السكنى بجوار مسجد لا تخلو من ضريبة! وضريبة مؤذية في كثير من الأحيان، فقد يضطر الإنسان في ظروف حياتنا المعقدة المتشابكة هذه أن يخرج بعد الأذان مضطراً في أمر طارئ، ليدرك طائرة، أو موعداً مع طبيب، أو ليستقبل مسافراً، أو ليدرك مقابلة مهمة، ولا تنتهي الاحتمالات؛ فيجد أن أحد المصلّين قد سدّ عليه طريق الخروج من موقف سيّارته لأن المصلي يريد أن يكسب أجر الصلاة في جماعة ولو على حساب الآخرين، ظاناًّ أن الناس جميعاً يصلون في هذا الوقت! فالمطارات خاوية! وعيادات الأطباء فارغة، وأن جميع الناس ليس عندهم ظروف تطرأ عليهم، ثم قد يصلي صاحبنا المؤذي هذا، وأنت تنتظر قدومه الميمون ليفك أسرك! وقد تنتهي الصلاة ثم يجلس صاحبنا ينهي أذكاره كاملة بخشوع تام، وببطء شديد، ثم قد يقوم فيصلي الراتبة، ثم صلاة الوتر، وقد يبدو له أن يجلس قليلاً يقرأ القرآن، وقد يلقى صديقاً له من حسن حظك لا شك فيجلس معه يسأله عن حاله وحال أبناء أسرته فرداً فرداً! وحين تعترض عليه فحسبك أن يرفع صوته في وجهك وسيكون معه الحق مائة في المائة هنا حين يقول: أش بك يا أخي! ما تبغانا نصلي ولا أيه؟! ربما لا يحدث هذا الأمر دائماً ولكنه يحدث في أشد حالاتك اضطراراً، أما ما يحدث دائماً وكثيراً، فهو «إزعاج» مكبرات الصوت، والعجيب أنك حينما تعترض على مثل هذا الإزعاج لا يرى فيك الناس إلا واحداً من اثنين: إما أنك علماني تغريبي من زوار السفارات تبغض الدين وأهله! أو أنك والعياذ بالله ممسوس أو مسحور أو معيون تتضايق من سماع الذكر! دون القدرة على التفكيك بين ذكر الله وبين الإزعاج برفع الصوت بذكر الله! فهما أمران مختلفان. ويشتد الإزعاج حين يكون المؤذن أو الإمام قبيح الصوت، كثير النشاز منفر الأداء. هذا مع كون تقارب المساجد في الأحياء كافياً لسماع صوت المسجد الأبعد فضلاً عن المسجد الأقرب! ومع انتشار برامج التنبيه للصلوات في أجهزة الهواتف المحمولة. دع عنك ما إذا كان الإمام نشيطاً في إلقاء الدروس والمحاضرات مرات في الأسبوع، ليتعدى الأمر الصلاة الجهرية، أما حين يأتي رمضان، فتزداد تلك المآسي، فلا بد من أن يسمع الناس كلهم صلاة التراويح، وصلاة التهجد حتى لو كان بعضهم متعباً أو مريضاً، وحتى لو كان في البيت أطفال ومسنون ومعذورون يحتاجون إلى النوم أو إلى الراحة أو الهدوء، ففي البيوت مرضى نفسيون، وأطفال توحديون ومعاقون، وكبار في السن، يتأذون من هذه الأصوات العالية، ولك أن تتخيل كل الممكنات في الأعذار التي لا يكاد يخلو منها بيت. وللشيخ ابن عثيمين كلام مسطور في فتاواه حول هذه الظاهرة، وهو يميل إلى المنع والنهي عن الإيذاء بمكبرات الصوت في المساجد، وما فيها من تشويش وإزعاج، لو نقلته لأطلت المقالة، غير أنه شهير معلوم عنه -رحمه الله- حسبنا إذن رفع الصوت بالأذان، أما ما سوى ذاك فهو تزيّد، وإزعاج وتشويش. قال تعالى:{والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً. فالإيذاء محرم قطعا، أما رفع مكبرات الصوت فمسألة ظنيّة قابلة للجدل في أقل أحوالها، وهي من المستحدثات على أية حال.