اطلعت على مقالة الأستاذ الكريم علي الشدوي التي نُشرت في جريدة الحياة والتي انتقد فيها الفيلسوف التونسي أبا يعرب المرزوقي وترجمته لكتاب أدموند هوسرل (أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص وللفلسفة الظاهرياتية)، وقال الأستاذ الشدوي إنَّ حصول ترجمة المرزوقي على جائزة الشيخ زايد عن هذا الكتاب غير مستحقة، لأنَّ الكتاب غامض وغير مفهوم للقارئين، ولا مصلحة لي هنا في الانتصار للمرزوقي ولا في مخالفة الشدوي، إلا أنَّ القصة استثارت رغبتي في الكتابة والإدلاء بدلوي فيها بما أعرف، فالكتاب الذي قدمه المرزوقي ترجمة لأحد كتب هوسرل مهم جداً. هناك من يعتقد أنَّ هذا هو كتاب الظاهريات، المشروع الأساس لهوسرل، إلا أنَّ هذا ليس هو، بل هذا يعرف عند المهتمين بتأريخ الفلسفة باسم «الأفكار» وهو بالفعل يمثل مرحلة ما قبل اكتمال المشروع،على جودة الكتاب وإمتاعه، وكون الكتاب من تأليف هوسرل، وكون المرزوقي مجرد مترجم هنا، لا يلزمه بتوضيح غوامض الكتاب، فهوسرل مثل بقية فحول الفلسفة الألمانية كانط وهيغل ومارتن هايدجر، لغتهم شديدة الصعوبة وعسرة على الفهم وتحتاج وقتاً طويلاً من مطالعتها حتى يتم استيعابها، وقد يمكث الطالب سنين طويلة، مثل ما حدث مع إمام عبدالفتاح إمام الذي تصدّى لترجمة كل كتب هيغل، فأخبر عن نفسه أنه بقي سنين طويلة عاجزاً عن الفهم، بسبب أنه لم يدرك أنَّ الفلاسفة الكبار يخترعون لأنفسهم مصطلحاتهم الخاصة التي يجب على من أراد أن يفهمهم أن يتعلمها، وكانت غلطة إمام أن كان يقرأ هيغل بقاموس أرسطو، لذلك لم يستوعب من يقرأه. ولو كان كتاب أبي يعرب المرزوقي عن هوسرل، بمعنى ، لو أنه صنّف كتاباً يشرح فيه فلسفة هوسرل ويقص سيرته، لطالبناه عندها بالشرح الواضح الذي يصبر على أبطأ الطلاب فهما. أما والكتاب ترجمة فلا تثريب على المرزوقي هنا، فالفلسفة صعبة، ولا يمكن أن يستوعبها كل عقل. وقد كتب المرحوم محمود رجب مقدمة لكتاب هوسرل (الفلسفة: علماً دقيقاً) من قرابة عشرين صفحة، أوضح فيها باختصار مجمل المشروع الهوسرلي.كتاب الأفكار يدور في فلك نظرية المعرفة: ماذا نعرف؟ ماذا يمكن أن نعرف؟ وقد انطلق من تصور مختلف لمعنى العلم، فهو ينطلق من أفلاطون وديكارت والنزعة العقلية في القرن السابع عشر. وهذا التصور يتجه نحو الأسس الأولى والمعايير اللامشروطة للعلم. وهو هنا يسجل اختلافا وخلافا مع التصور الحديث للعلم التجريبي، بل يختلف عن التصور الحديث للعلم عموماً. فالعلم عند هوسرل وعند أفلاطون من قبل هو العلم المطلق والمعرفة المطلقة (الابستمولوجيا). وعند هوسرل يقوم العلم على حدس الماهيات، في مقابل العلوم التجريبية التي تقوم على الوقائع ومعطيات الحواس الخمس. إذاً فمشروع الظاهريات جاء لإقامة الفلسفة كعلم دقيق مثل الرياضيات والعلم الطبيعي، أو هذا ما كان يطمح إليه على الأقل، بل يصرح هوسرل أنَّ الفلسفة يجب أن تكون أكثر دقة من تلك العلوم. وهو في الأفكار، ينحاز انحيازاً واضحاً إلى صف الفلسفة المثالية التأملية ضد الفلسفة التجريبية بل ويحارب المادية ويشكك في الإمكانات الفلسفية في العلوم الطبيعية، وإنَّ محاربة الفكر المادي التجريبي فريضة على كل مفكر من أهل الزمان. فالمذهب الطبيعي من وجهة نظر هوسرل، ليس سوى ظاهرة ترتبت على اكتشاف الطبيعة، أي الطبيعة منظوراً إليها على أنها وحدة الوجود الزماني المكاني، وتخضع لقوانين منضبطة، وقد أخذ هذا المذهب في التوسع بسبب التحقيق التدريجي لهذه الرؤية في مجال العلوم الطبيعية، فأصبح العالِم الذي يسير وفقاً لهذه الرؤية لا يرى شيئاً سوى الطبيعة في صورتها الفيزيائية. ثم يسعى هوسرل لتأسيس علمه الجديد الذي لم يكن معروفاً قبل عصره، علم الظاهريات، وهو العلم الذي يدرس الوعي والشعور في مجموعه، لقد كان هدفه هو إقامة علم لظاهريات الوعي أو الشعور في مقابل العلم الطبيعي. وبطبيعة الحال كان هذا العلم الجديد قريباً من علم النفس من حيث إنَّ كليهما يهتم بالوعي، إلا أنهما يختلفان من جهة أخرى، فعلم النفس يهتم بالوعي أو بالشعور التجريبي منظوراً إليه على أنه موجود هناك في الطبيعة، أما ظاهريات هوسرل فتهتم بالوعي الخالص، أو الوعي والشعور من وجهة نظر ظاهرياتية. لقد كان هوسرل ينعى على الفلاسفة تفرقهم في مذاهب شتى، مذاهب جامدة مغلقة على ذاتها. وكانت قكرته أنه سيجمع الآراء في فلسفة واحدة يقينية دقيقة، لكن الذي حدث أن تحول مذهبه لأحد هذه المذاهب الفردية المغلقة وأخذ مكانه في رف التاريخ، لكن ترجمة كتابه كان عملاً مهماً لما له من جهد في بناء وتركيب العقل.