إن كان يعمل لديك سائق فلبيني، أو عاملة فلبينية، فلا تنس اليوم أن تقدم لهما كل مظاهر الاحترام والتقدير. ولكن قبل أن تسأل لماذا؟ دعني أروي لك ما صادفني في سفري الأخير. فأنا مشكلتي الأزلية في السفر، هي مع الناس «الرغايين»، لأنني أود أن أستغل الوقت، فأنام في الطائرة لأذهب للعمل، ثم أنام راجعاً، فذلك للزمن أقصر، وللمال أوفر. وصلت صباحاً للمكتب في مانيلا، وصاحبه من هذا النوع «الرغاي»، وجدت جريدة (ذا مانيلا تايمز) 18-3-2012م قد نشرت أن (المجلس الأعلى لحسن الأداء الحكومي) سيبيع بالمزاد قطعتي أرض كانت تعود ملكيتهما للرئيس السابق فرديناد ماركوس، و صودرتا منه عام 1986. هل تذكر ماركوس؟ حكم الفلبين بديكتاتورية شديدة، وزور الانتخابات. وكان حكمه فاسداً، وعندما «طيروه» من الحكم، وجدوا لزوجته (إيميلدا) 4500 زوج من الأحذية في القصر الرئاسي لتلك البلد الفقيرة! حكم حكماً فاسداً برعاية أمريكية تامة، بحجة أنه يكافح الشيوعية في الباسيفك، ما دروا أن الفساد هو أول أسباب استقبال الناس للشيوعية، ولو حكم حكماً عادلاً لما نادى بها عاقل. قرأت بنفسي إعلان هذه الهيئة عن مزاد لبيع قطعتي أرض ملكهما ماركوس، الأولى مساحتها 4830 متراً (متراً وليس كيلومتراً) تقع على طريق روكساس في مانيلا، والثانية مساحتها 3876 متراً على أوتلوك درايف في مدينة باجوا. وصرح السيد ريتشارد أمورا، مسؤول قسم الأملاك المصادرة في ذلك المجلس، أنّ حصيلة المزاد ستخصص لمشروع إعادة التأهيل الزراعي للفقراء. ضحكت من انفعال صاحب المكتب الذي كنت أجلس فيه، وهو يقرأ الخبر، ويؤكد استغرابه من كبر مساحة قطعتي الأرض، ثم شعرت بالحرج لضحكي، فاعتذرت منه، وحاولت أن أغير الحديث، فقلت متفلسفاً: رغم زوال ماركوس إلا أن البلد مازال فقيرا. فقال: إذا كان أولى به ألا يسرق الأرض من شعب فقير، أين سيسكن الفلبينيون إن هو استأثر بالأرض لنفسه ولأولاده؟ هاتان القطعتان لن تزيلا الفقر عنّا، ولكنها مسألة مبدأ. كيف له أن يستأثر بشيء عام؟! لقد حكم واستلم مرتبه الشهري كرئيس، كل شهر، فلماذا يأخذ قطعتي الأرض بصلاحيات غير دستورية خلقها لنفسه؟! وقال نحن شعب فقير، لكن ذو كرامة، لا نرضى أن ننهب. وقال أيضاً نحن شعب كاثوليكي شديد التدين، منذ أن دخلنا الاستعمار الإسباني. لذا عندما تظاهرنا بعده مرة أخرى على الرئيس استرادا عام 2001 تظاهرنا عليه بدعم ووحي من الكنيسة، تظاهرنا عليه حتى إسقاطه، بسبب فساده، فهذا الفساد لا يرضي أبداً الروح القدس، بل ما نزل السيد المسيح إلا لينشر العدل على كل أرض خلقها الرب، طوبى للمارين بالحياة، كما مرت العذراء، جسد في الأرض وقلب في السماء. لقد ساعدتنا الكنيسة لأنه ثبت لها أنه استغل سلطاته للحصول على 130 ألف دولار. يومها وقف البيشوب نيافة الأنباء جوزيف فلورس الرابع، راعي كاتدرائية «قلب يسوع المقدس» الذي كان استرادا دائماً، يجله ويحضر معه عظة الأحد، وقف البيشوب يوم 17 يناير 2001 مع المتظاهرين وخطب خطبته الشهيرة التي قال فيها أنا أحب استرادا، أنا أحترم استرادا، أنا مع استرادا، لكنني مع المسيح أقرب، والروح القدس يراقبنا من السماء، ويأبى للفساد أن يسحق العباد. واستمر صاحب المكتب يشرح لي أهمية الحفاظ على بيت مال المسيحيين للأمة الفلبينية، وأهمية الحفاظ على الأراضي العامة ليسكن بها شباب الفلبين، وكرر ونظر لمدة ثلاث ساعات. لم أتمالك نفسي أن أضحك، وتيقنت عندها أن وقتي الضيق للعمل قد ضاع، و»السفرة» قد ضاعت، فأمسكت به من كارفتته، وقلت: «يا راجل يا فلبيني يا كبارة، يعني أطير لك 12 ساعة، ومطارات «تشيلني» ومطارات تحطني وتقول لي آخذ ثلاثة آلاف متر والثاني زعلك على 130 ألف؟ 130 ألف يا غطا الزير؟ هذه لوزير في العالم العربي ما تطلع قيمة «عشوة» في باريس مع ما يتبعها من عصير عنب سفوح الألب، المشمسة، المعتق في براميل خشب شجر البلوط، 130 ألف يا مخ البسلة؟» ثم تذكرت بحسرة قيمة التذكرة، وبطريقة لا إراديّة أمسكت ذراع صاحب المكتب الرغاي، وغرست أسناني. نعم، لأول مرة أعض، وبعد 56 سنة من آخر عضة عضضتها (ومازالت مَعْلَماً في ذراع البروفيسور حسن فارسي إلى اليوم). فخرجت هارباً إلي المطار لأجد نفسي في طائرة العودة، رغم زعلي الشديد منه، إلا أنني كنت أنشد: قم للفلبيني وفه التبجيلا، كان الفلبيني للعدل دليلا.