الحقيقة تتوارى تحت أنقاض الغوغائية وحمى التضخيم الإعلامي. وما أسوأ أن تغيب الدقة من وسائل إعلامية حول قضايا تهم الرأي العام، خاصة تلك القضايا التي تخضع لإجراءات أمنية أو قضائية تتطلب جانبا من السرية. فيتحول الاعتماد الكلي للمتابعين على التسريبات والاستنتاجات والإثارة والتلفيق. كل ذلك حول أخبار غير مؤكدة بعد، وقبل أن تعلن الجهات المعنية عن نتائج إجراءاتها. قضية أحمد الجيزاوي شغلت الرأي العام مؤخرا. وتهريبه للحبوب المخدرة تحت غطاء العمرة مثلها يحدث كثيرا ومن جنسيات مختلفة، من بينهم مصريون. لكن بعض الصحف المصرية رغبت أن تشعل النيران بتلفيق مانشيتات عريضة على الصفحات الأولى، وكأنها تدفع بالقضية نحو جهة معينة. هذه القضية هي نموذج للمعالجة الإعلامية السيئة، حيث مصدر الخبر غير موثوق، وحيث ربط الخبر بقضية أخرى وإكسابه صبغة سياسية، ومن ثم القفز على النتائج. هذا يشير إلى أن «الصحافة» في مصر لا تزال «غير حرة»، فالصحافة الحرة لا تفعل ذلك. والحقيقة في النهاية هي بلا شك من تدفع الثمن. إن المشكلة لا تكمن في الخبر. إنها تكمن في حجم الضجة التي يحدثها، فتدفع هذه الضجة بعض المصريين إلى ارتكاب حماقات يصعب محوها من الذاكرة، فضلا عن المقاطع المصورة. إنها تداعيات مؤسفة تجرح علاقات وتقوض من أواصرها. وإن كان التظاهر أمام السفارات في حد ذاته لن يكون مشكلة، إن التزم المصريون بحدود اللباقة وعرضوا مطالبهم على رجال القانون والديبلوماسية للمتابعة. لكن التعدي على حرمة وسيادة دولة كالمملكة، ومحاصرة السفارة ومهاجمتها بأقذع الألفاظ ينقض المعاهدة الديبلوماسية الدولية، ولا يمت لفلسفة التظاهر المتحضرة بصلة. وحسنا فعلت الحكومة السعودية حين أغلقت سفارتها وقنصلياتها إلى أجل، فهي فرصة لكي يفكر فيها أولئك مليا. أن يتضامن المصريون مع مواطن من بني جلدتهم من المسلمات التي لا تقبل المزايدة. لكن يحتاج المصريون إلى «صدق» في التعامل مع قضاياهم الخاصة. الحق لا يحتاج إلى مكابرة. الحق يحتاج إلى تجرد دون النظر إلى جغرافية وجنسية الفرد. من يفهم، عموما، في القانون يعلم أنه لا يوجد في قوانين العالم نص يجعل من دولة أخرى تحكم غيابيا على شخص من غير جنسيتها ودون قضية. الجيزاوي «اعترف» و»أقر» بتهريبه الأقراص المخدرة. كما اعترف أيضا بوجود شبكة مصرية سعودية للتهريب، وتسجيل اعترافاته بالصوت والصورة يقطع الشك باليقين، والأيام القادمة ستحمل تفاصيل أكثر. ولمن شكك في إمكانية تهريب هذا الوزن من الأقراص، فإن حجم القرص الواحد «زاناكس» هو 25 ملجم * 21,380 قرص= 5.345 (خمسة كيلوجرامات وثلاثمئة وخمسة وأربعون جراما تقريبا)، والجمارك تسمح بوزن 20 كيلو للحقيبة الواحدة للمسافر. يرى بعض من يقرأ الأحداث المتواترة، أن ما حدث من التصعيد الإعلامي المصري، فضلا عن كونه مقصودا، أن الأمر قد يعود إلى تراكمات دفينة في العلاقة التاريخية بين مصر والسعودية. هناك أكثر من مليوني مصري يعيشون في السعودية، وفي مصر مئات الآلاف من السعوديين المقيمين والدارسين والسياح. وقوانين الدول ليس بها كرامة مصري أو سعودي من الجانبين. وإلا تحولت المسألة إلى عقدة مؤامرة. إن ما بين الشعبين أكبر من مزايدة من يهدفون إلى كسب نقاط رخيصة، بارتداء ثوب البطولات الوهمية التي تضر شعب مصر آلاف المرات أكثر مما تفيده. أعتقد أن هذا درسا يأخذه المصريون في الحكم على قضاياهم الداخلية، التي تحولت بعد ثورة انحنى لها العالم تقديرا، إلى تصرفات بربرية من أولئك القلة الذين يظنون أن كل شيء سيحدث مثلما حدث في ثورة 25 يناير. هي للأسف نشوة وغرور ما بعد الثورة، التي يعتقد قلة منها أن كل شيء سيقومون به ليس سوى «بطولات» أخرى، دون اعتبار لأي شيء. يعي الجميع أن شخصية المواطن المصري ليست هي نفسها في عهد «مبارك»، لكن ذلك لا ينبغي أن يعني أن تتحول إلى الأسوأ. لذا إنها فرصة ليخرج بها مسؤولونا في المملكة قريبا لتوضيح ملابسات السجناء المصريين في السعودية، حيث يعتقد بعضهم أنهم «معتقلون» سياسيون لاستعطاف الرأي العام كما حدث في برنامج حافظ الميرازي، بينما قد يكون الأمر سجناء لأمور جنائية شبيهة، ما يسبب خلطا إضافيا في الموضوعات. كما نرجو أن يسعى إخواننا المصريون إلى لم شملهم في الداخل، بدلا من تشويه سمعة المصري الذي عرفته الأمم بصورة الثقافة والعلم والفن. وليست صورة المواطن الغوغائي. يا إخواننا لطالما قلتم «اللي ما لوش كبير يشتري كبير». لذا إنها الفوضى يا مصر العزيزة. حفظ الله المملكة وحفظ مصر.