حوار بيني وبين ابنتي ذات الثلاثة أعوام، جعلني أتمثل من الألم تارة وأحسب نفسي تمثالاً من الذهول تارة أخرى، فظروف العمل وأقدار الحياة كانتا هما السبب وكنت كمن يقف عاجزاً أمام خيارين غير مقتنع بأي منهما، عندها أدركت فوضى مشاعري وأيقنت أني لا أعرف شيئاً سوى العمل، فأطلت النظر إليها وأملت عينيّ بها وما أن تلاقت نظراتنا حتى فهمت صدق الرسالة، وتخيلت أن أنفاسها اللاهثة قد أصدرت صوتاً يقول إني احتاجك يا أبي، حينها كبتُّ نفساً عميقاً وقلت بصوت متردد: وأنا كذلك يا بابا، وبدأ صوتي يخونني وكلماتي تتشتت وانهمرت دموعي ذارفة وأخذت بضمها بين ذراعي، بينما دموعي متسللة على صفحات وجهي المحمر، فكرت حينها بالجريمة التي ارتكبتها بحق ابنتي وأسرتي ووالديّ، فبرغم الألم الذي أحدثته لهم بسبب اغترابي لأجل العمل لثلاث سنوات، فإنهم وبمجرد عودتي ينسون عتبهم علي، حينها تأملت قسوتي على نفسي وعلى أسرتي وواجهت أحزان قلبي، وبدأت ألاعب ابنتي خانقاً دموعي ونزف وجداني، وكنت مندهشاً من قدرتي على إدخال الفرح لقلبها رغم ما يسكنني من وجع وشوق، فقد عشت حالة من الألم أرتعب من مجرد التفكير فيها، وأغلف عقلي باللامبالاة وأخرج من بوتقتي للقاء زملائي حتى تستطيع روحي استقطاب السعادة، وصرت أفكر في بعض من يغتربون لسنوات عجاف وأزمنة طوال ولا يشعرون بتأنيب الضمير، ولا أفهم كيف لهم أن يفكروا أو أن يتصرفوا. فعند كل وداع أشعر بقبضة قوية يقفز قلبي من خلالها ويخرج منه كل الشوق ليبقى بينهم، ولئن كنت سعيداً بتمثيل بلدي في الخارج إلا أن حجم سعادتي بذلك كان بحجم شقائي لفراق أسرتي.