توالت في الآونة الأخيرة، في ظل الانفتاح العالمي وثقافة العولمة، مطالبات عديدة، فحواها المطالبة بالتغيير والتطوير، في جميع مجالات ونواحي الحياة المختلفة، وتباينت المواقف في ذلك، ما بين ثلاثة اتجاهات رئيسية: قسم طالب بالتغيير الجذري، ونبذ كل ما لدينا من مبادئ وقيم وأنظمة، وغيرها، واستيراد أنظمة وقوانين مستقاة من نظريات حديثة، أو ثقافات أجنبية، شرقية كانت أم غربية. وقسم آخر رفض التغيير والتطوير رفضاً تاماً، وطالب بالتمسك بالماضي العريق، ورفض غالب ما يستجد في جوانب الحياة المختلفة، معللاً ذلك بضرورة الحفاظ على تراث وثقافة الأمة، صافياً نقياً من شوائب المدنية وسقطات الحضارة! وآخر رأى بأن التغيير والتطوير ضرورة لابد منها، وسخّر إمكاناته وطاقاته في جعل التغيير سبيلاً للتحسين في الأداء والمضمون، مستغلاً بذلك الجوانب الإيجابية، والنواحي المشرقة لعملية التغيير على جميع الأصعدة والمجالات.والواقع أن التغيير سنة كونية، أرادها الله وأوجدها في مجالات وجوانب الحياة المختلفة، حكمة منه جل وعلا، كما في قوله تعالى «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» وقوله عز وجل «وتلك الأيام نداولها بين الناس». إنه ليس من الحكمة، أو العقل، أن نواجه أو نعارض سنة أوجدها وأبقاها الله، له، ولعباده، جل في علاه «كل يوم هو في شأن» فالتغيير سبيل التطور والرقي والتحسين في مجالات الحياة المختلفة، ولا يقتصر على المجالات العلمية والإدارية والتقنية فحسب، بل يتعداها إلى مناحٍ أخرى، كالتفكير والفلسفة والاستنباط وغيرها. إنّ التغيير مبدأ جميل ومهم في حياة البشر، فهو نتيجة التفكير العميق في مجريات الأمور وطرق أدائها، والبعد عن السطحية والنمطية في التأمل، والنظر بعين النقد البناء، الهادف إلى التحسين والتطوير، لأن جميع الأنظمة والآليات التي تحكم حياة البشر اليومية اليوم، ما هي إلى من صنع أناس رؤوا أنها أفضل ما يمكن التوصل إليه في حينه، ضمن اعتبارات وافتراضات معينة ليست بالضرورة كفيلة بعلاج كل ما يطرأ من أوجه القصور والضعف سواء حاضراً أو مستقبلاً، لذلك كان لزاماً المراجعة الدورية لهذه الأنظمة، واتخاذ ما يلزم تجاهها من تغيير إيجابي يكفل أداءها بشكل أفضل.لقد قرن ربنا بين التغيير الإلهي وبين التغيير البشري، بأن جعل التغيير البشري هو السبيل الوحيد للتغيير الإلهي على مستوى الأمة، كجزء من سنة الله في هذا الكون، لأن التغيير الإيجابي للأمة ليس هو مسألة خوارق أو معجزات، كما يتصور البعض اليوم، عندما ينادى بصلاح الدين أو غيره، وكأن هذا الفرد هو المنقذ للأمة فحسب، بل إن المنهج الذي أراده الله، هو أن يتم استنهاض الأمة، والإصلاح على جميع الأصعدة والمستويات، فردياً وجماعياً، والقيام بشريعة الله، والدعوة إلى سبيله، والنصح للأمة، فسبيل النصر لنا هو أن ننصر ربنا في أنفسنا ومجتمعاتنا، بل هو السبيل الوحيد للنصر والتمكين كما قال تعالى «إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم». إن التغيير الإيجابي الهادف إلى التطوير والتحسين والإبداع، في ظل المحافظة على ثوابت الدين وقيم الأمة، مطلب جليل، وهدف سامٍ يسعى إليه كل صادق مخلص من أبناء الأمة، فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فالأمل في أبناء الأمة كبير، في جلب كل ما هو مفيد من ثقافات الآخرين وتجاربهم.إن في الأمة اليوم الكثير من أمثلة التميز والمبادرات في إدارة التغيير والتطوير على الأصعدة كافة من طب وهندسة وعلوم وغيرها من مجالات الحياة المختلفة، ما يجعل المسلم يوقن بأن التغيير للأفضل يمكن أن يتم في ظل الحفاظ على أصالة وتراث الأمة، من دين وفكر وثقافة، مع مواكبة كل ما يطرأ ويستجد في عالم اليوم المتجدد، فالاندماج التام، والذوبان الكلي في ثقافات الأمم الأخرى، ليس مطلباً بذاته، بل الهدف أن نأخذ من هذه الثقافات ما هو كفيل بالرقي بأمتنا وتطويرها ونهضتها بين الأمم الأخرى، ما كانت اليابان لتصل إلى ما وصلت إليه من نهضة وثورة صناعية واقتصادية، على المستويات كافة، لو لم تستفِد من نهضة أوروبا، وتجعلها نقطة للانطلاق نحو نهضة حقيقية، بنيت بسواعد يابانية، لتقول للعالم إنّ النهضة والحضارة التي لا تُبنى بطاقات أبناء الأمة، وتتسم ببصماتهم، وتدار بسواعدهم، هي حضارة وهمية زائفة زائلة، ومهما بقيت براقة لفترة من الزمن، فإنّ الزوال مصيرها المحتوم! كذلك وجب أن نقول، إنّ إدارة التغيير بإيجابية وحكمة، سبيل مهم لنهضة الأمة ورقيها وتطورها، ولكن الأهم هو أن ندرك أنه يجب أن نتغير في ذواتنا، فكراً وخلقاً وسلوكاً، لينعكس ذلك التغيير على مستوى الأمة، فالأمة مجتمعات، والمجتمعات أفراد، والأفراد هم أساس التغيير.