لا شك أن الأدب والفن -في أي منطقة في العالم- يتأثران بالتغيّرات السياسية والاجتماعية وتقلب الأوضاع، وتعدد الوجوه على المسرح السياسي. وحيث إن الأدب والفن يعتبران مسجلاً ومتنفساً للشعوب، ومعبّراً عما يجيش في صدور الناس من فرحة وألم، ونعمة ونقمة، وتقتير ورخاء، حسب تعامل الأنظمة مع الشعوب ورموزها الأدبية والفنية، تماماً كما هي حالات الإحباط التي تجعل من الأدب والفن متنفساً مهماً للتعبير عن تلك الحالات. وفي مقال لموقع (الجزيرة) الوثائقية للكاتبة ضاوية خليفة من الجزائر عن مستقبل السينما العربية بعد الثورات العربية، حيث أشارت الكاتبة إلى وجود انقسام سينمائي في مصر بين مؤيد ومعارض لتحرير القطاع السينمائي من القيود التي لا طالما كانت عائقاً للعملية الإبداعية، رغم جرأة الطرح في أعمال بعض مخرجي مصر. وقد أكد بعض المنتجين المصريين -حسب المقال- أنه سيكون للثورة انعكاس وتأثير على السينما المصرية، بعد أن تغيّرت أوضاع التصاريح، وصار بإمكان أي شخص الحصول على تصريح إنتاج الأفلام وحرية عرضها . وأن الثورة قد أزالت عدة حواجز وحررت الأفكار والخيال. نحن نعتقد أن الثورات العربية -التي نجحت وتلك التي في طريقها نحو النجاح- لا شك سوف يكون لها ظلال كبيرة في العملية الإبداعية في العالم العربي، ولربما تأكد هذا في المجال الروائي والمسرحي والسينمائي . فالرواية العربية عاصرت عهوداً من المنع والإقصاء والإسقاط القميء على بعض الأوضاع، التي يتخيلها ويتوجس منها الرقيب الحكومي، قد تجد متنفساً جديداً ومخيالاً رحباً بعد الثورات العربية، ليس فقط مع تبدل التشريعات وقوانين الرقابة الصارمة في بعض البلاد العربية، بل لأن أحداثاً عديدة قد حدثت إبان غليان الثورات، وأسماء عديدة ظهرت، ومنها ما لم يظهر، قد يظهره المخيال الروائي، تماماً كما هو الحال مع الأنظمة المتهاوية ورموزها، وتاريخها المؤسف، الذي صدم شعوباً لآماد طويلة وحرمها من حقوقها الشرعية، بل من أبسط حقوقها وهو حقها في المواطنة. وفي المسرح، رغم ظهور أعمال مصرية ناجحة قدمها الفنان عادل إمام خلال العشرين عاماً الماضية، وكذلك أعمال الفنان محمد صبحي السياسية، ونفس الشيء ينطبق على الفنان السوري دريد لحام في أعماله السياسية، إلا أن الرقابة ظلت حاضرة في العديد من الأعمال، على الرغم من التصاق الفنانين الكبار مع الأنظمة الحاكمة في حالات عديدة. ولكن الحال بعد الثورات العربية قد تبدل، وأصبح المجال خصباً لأعمال تتجاوز لحظية الإضحاك أو إدراره، إلى رحابة الخيال والتمعن في واقعية التفكير. ولا شك أن المؤلفين العرب سوف يجدون من الساحات العربية -التي كانت مسرحاً للمظاهرات ومنصات للتغيّر- من المواقف والقصص التي تثري الفكر العربي، بقدر ما تضحك على العقل العربي . لقد تم تصوير المئات من اللقطات في تلك المظاهرات عبر الهواتف النقالة، وقامت الفضائيات بتوثيق مئات اللقطات عن الحكام الذين سقطوا -بعد أن كانوا يتباهون فوق العروش- ولعل لقطة (القذافي) خلال مؤتمر القمة العربي التي يقول فيها: «كلكم جاي عليكم الدور»، من اللقطات البليغة المعبّرة عن زوال نظامه. وبالنسبة للسينما، ونحن ندرك أن مصر تمتلك مقومات السينما الناجحة، ولها تجاربها في هذا المجال أكثر من أي بلد عربي، فإن الأوضاع الجديدة وما يمكن أن يستجد من تشريعات في مجال الإنتاج السينمائي، سوف يفتح الآفاق نحو سينما عقلانية، تخاطب العقل العربي، بوعي ورصانة، بعيداً عن «إسفاف» الموقف أو محاولة إدرار الضحك، ضمن واقع إنتاجي مبتذل لا يعني بالإثارة أو التشويق أو الإبهار البصري والسمعي. مع كل التقدير بأن للفيلم الكوميدي مريديه ومعجبيه. لكننا هنا نتحدث عن التغيّر الذي طرأ على العقل العربي، ودور الشباب في المظاهرات التي أدت إلى زوال الأنظمة العتيدة، خصوصاً في ظل نظام بوليسي راسخ مثل نظام (مبارك). ذلك أن الفظائع والمخالفات واستحواذ القوة وسطوة الحاشية، كل ذلك من الموضوعات التي تستفز العقل لمزيد من الإبداعات والمساحات غير المطروقة في السينما العربية. خصوصاً في ظل زوال «حرج» استدعاء وتصوير الرموز السياسية التي طالبت الشعوب بمحاكمتها علناً. ومع النقد الذي سيّق للسينما العربية حسب المقال بأن مصر لا تنتج أكثر من أربعين فيلماً في العام ولا ينتج المغرب أكثر من عشرين فيلماً في العام، إلا أن تقديم رؤى جديدة غير نمطية وغير تقليدية وغير عاطفية لحقيقة ما جرى في العالم العربي، مع تضمين التكنولوجيا المتطورة في الإنتاج، من الأهمية بمكان لضمان تقديم سينما ناجحة تخاطب العقل وتكون مرجعاً تاريخياً موثقاً لحقيقة الأوضاع في العالم العربي. وهذا يتطلب أن تكون الرؤية محايدة، بعيدة عن شوفينية العاطفة، أو «هوى» المؤلف أو أيديولوجية المخرج. وهنالك العديد من المواقف التي برزت خلال الثورات العربية، مثل: دور الشباب في الثورات، موقف الإسلاميين، صدامات الأقباط مع الأمن في ماسبيرو بالقاهرة، محاكمات رموز النظام السابق، موقف الإعلاميين والفنانين الرسميين من الثورة، مساوئ الحكم السابق، وغيرها من المواضيع التي يمكن أن تبنى عليها أفلام جديرة بالمشاهدة. إن الثورات العربية حتماً سيكون لها حضور في الأدب والفن في الوطن العربي، ولا بد أن يتحلى المتصدون لذلك الحضور من المبدعين والفنانين العرب، بروح جديدة، سياجها الحرية الواسعة، ومادتها الإبداع المعتمد على نظرية الفن للفن وليس الفن للتذاكر أو الفلوس، وليس أن الفن للسياسة أو الاقتصاد أو الترويج الهابط.