يسألني: لماذا خلق الله الأمم؟ وما الحكمة منه؟ وما المانع لو أن الحياة خلت من العذاب والشقاء؟ وما بالنا نرى الإنسانية تعيش ألوان العذاب ونرى الله يتركها فلا يسمع لها نداءً؟ فقلت له: الأمر أعمق مما تتصور، وأخفى وأدق مما نظن. ولكنني سأحدثك عن بعض ما يرد ويظهر لنا نحن البشر القاصرين عن الحكمة الإلهية في جانب واحد من الوجود، فكيف بما لا يحصيه إلا الله؟ الألم له جانبان، جانب حسي وجانب معنوي نفسي، وكلاهما مرتبط بالآخر، وله تأثير في أحيان كثيرة عليه. فألم الجسد يأتي من المرض أو الأضرار الأخرى كالاعتداء والتعذيب وأنواع العوارض التي تصيب الجسد. وألم النفس يأتي من الحزن أو الحسرة أو القهر أو الصدمات النفسية أو الفقد، وما إلى ذلك. والألم سنة ربانية، خُلق الإنسان وهي معه، وهي سرّ فيه، قال عز وجلّ: (لقد خلقنا الإنسان في كبد). وهو يظن أنه يستمتع بالحياة ولذائذها في أوقات العافية، ولا يعلم أنه في أحسن حالاته لا يعدو أن يكون في حالة دفع للألم، فكل شهوة من شهواته التي يتلذذ بها، إنما يدفع بها آلام الدواعي إليها، فالطعام مهما كان لذيذاً، إنما هو لدفع الجوع، والماء لدفع العطش، واللباس لدفع العري، وإنجاب الذرية للهروب من الوحدة ولإشباع النداء الأبوي في الإنسان، والجماع لدفع الطبيعة الملِّحة، والنوم لدفع الإرهاق. والإنسان منذ أن يخرج لهذه الدنيا، والألم مصاحب له. فالطفل يولد في أيامه الأولى بجراحه الجسدية، فحبله السُّري مقطوع ينزف، وحبله النفسي مع أمه مقطوع بالانفصال، وليصل الإنسان إلى مرحلة يقف فيها على قدميه، ويتعامل مع الحياة باستقلالية يمر بتفاعلات جسدية وتغيُّرات عضوية مؤلمة يعلمها الجميع. ثم إذا استقل بنفسه، بدأ الصراع بينه وبين آلام الشهوات واحتياجاته الطبيعية. إنه يولد جائعاً باكياً، ويكبر مدافعاً شاكياً. والأشياء في هذه الأكوان لا تظهر إلا بالمشقة والألم، أو ما يوافقها من مظاهر الكون ويعبر عنه. الحبة التي تتحول إلى نبات، تمرّ بمراحل المقاومة وشق الأرض والصبر على الظواهر المحيطة، والكواكب التي تتوالد في السديم لا تخرج إلا بانفجارات كونية، والمطر الذي يروي البلاد والأكباد وينبت الكلأ والزهور، لا يأتي إلا في جو من الغيوم والصواعق والرعود والبروق. الإنسان لا يخرج إلى هذه الدنيا، حتى تشرف والدته على الموت. والإنسان في أحيان كثيرة له ميول إلى الألم، أو إلى أشياء لا تحصل إلا بالألم. فالمرأة تحمل طفلها الأول، وتعاني أشد المعاناة، فإذا جاء مخاضها أشرفت على الموت، وبعد أن تتخلص من هذا العذاب بوقت قصير، قد يكون دقائق، تبدأ تخطط للحمل القادم، أو تفكر فيه على الأقل، وكأنها ما ملأت الأرض صراخاً من الألم. والإنسان يعلم أن نهاية اللقاء ألم الفراق ويستكثر منه، ويعلم أن الحب عذاب ويبحث عنه، ويعلم أن الذرية تعب وإشفاق وقلق واهتمام ويكاثر بهم. وفي كل سفر يجد مشقة وخطراً، ولا يفتأ يسافر ولا يتوقف. نظر صديقي إلى متضايقاً: فلماذا الألم؟ قلت: بالألم عرفنا اللذة، وبالشقاء عرفنا السعادة وبالحزن عرفنا الفرح، وبالجوع عرفنا الشبع، وبالعطش عرفنا الري، وبالظلام عرفنا النور، وبالتعب عرفنا الراحة، وبالبغضاء عرفنا الحب، وبالنقص عرفنا الزيادة، وبالقبح عرفنا الجمال، وبالبرد عرفنا الدفء، وبالشمس عرفنا الظل، وبالشر عرفنا الخير، وباليأس عرفنا الأمل، والشيء يظهر حسن الضد، والعالم كما يقول أحد العارفين قائم على المقابلات.