خلال جلسة حوار صباحية مع إحدى زميلاتي في العمل قادنا الحديث لعدة مواضيع ومنها الحديث عن العلاقة بين الوضع السياسي المتأزم الراهن الذي تعيشه منطقتنا العربية وبين ما يعرض في وسائل الإعلام من برامج تسمى «جماهيرية» وتستقطب نسبة مشاهدة عالية جداً حسب ما يصرح به في وسائل الإعلام على الرغم من أنها لا تخلو من الابتذال وتسطيح التفكير وتسويق الثقافة الغربية على المشاهد العربي في أسوأ مظاهرها، ومن هذه البرامج برامج اكتشاف المواهب والأصوات الغنائية وانتخاب أفضلها عبر قنوات التصويت الجماهيرية المختلفة برعاية شركات كبرى مثل شركات المياه الغازية لأهداف تجارية بحتة. اللافت للنظر أن مثل هذه البرامج تذاع على المشاهد العربي بالتزامن مع تردي الأوضاع السياسية والأمنية في عدة أقطار من العالم العربي، الذي لا أدري هل هي مصادفة أم توقيت متعمد، على الرغم من أن المنطقة تشهد حالة مخاض سياسي وفكري لا ندري بأي شكل سوف نشهد ولادته، كما إننا على مستوى المشاهدين لسنا بمنأى أو بمأمن عما يحدث هناك. والثقافة الغربية التي يتم تسويقها من خلال «عرب آيدول» و»عرب جوت تالنت» وسواهما من برامج أخرى، لا تقتصر على النهج الفني بل تتعدى ذلك إلى تسويق هذه الثقافة عبر استخدام رموز فنية من العالم العربي وإظهارها بمظهر رداء غربي، واستقطابها بأموال شركات أجنبية لتسويق الثقافة الغربية، كما ظهر ذلك جلياً من خلال الأزياء والموضة المستخدمة التي تتعارض مع عادات وتقاليد المجتمعات العربية وأيضاً أسلوب التعامل على المسرح بكثرة تبادل الأحضان والقبلات بمبرر وبلا مبرر كل هذه المشاهد تتكرر أمام ناظر المشاهد العربي بما يحتويه من شريحة كبيرة من صغار السن والمراهقين، وكأنها محاولة لتمييع ثقافة الجيل الناشئ الذي أصبح حلمه أن يكون بطلا أو فنانا يمثل شركة المياه الغازية هذه أو تلك! وهذا أمرٌ خطيرٌ قد يهدد كيان المجتمع العربي وترابطه، حيث إن من خلال هذه الممارسات الاستهلاكية نزرع في عقلية الجيل العربي الناشئ ثقافة مستغربة لا تتلائم واحتياجات المنطقة العربية وما يواجهها من تحديات مستقبلية على جميع المستويات من سياسية وأمنية واجتماعية وثقافية واقتصادية، فكل ما يقام من تلك البرامج في الأساس هو قائم على مبدأ الربحية التجارية بعيداً عن المحتوى القيّم أو رفع مستوى الوعي والإدراك عند المشاهد، حيث لم أصادف حتى الآن إقامة برامج جماهيرية تشجع الاكتشافات العلمية أو المواهب الأدبية والأنشطة الثقافية، أو برامج قائمة على التوعية فقط ونشر المنفعة بدون أغراض ربحية، وممارسة ضغوط الإنفاق على المستهلك عبر وضع الإعلانات التجارية المختلفة التي تصب في أغلبها ضد مصلحة المواطن العربي. أنا لست ضد الفن والموسيقى والأغاني واكتشاف المواهب حينما تكون مرآة صادقة وتعكس بتجلي وشموخ الثقافة الشعبية التي جاءت منها والمرحلة السياسية التي تمر بها المنطقة، وليس حينما يمثل الفن ثقافة مستوردة مغلفة بأكياس بلاستك جاهزة للاستهلاك السريع في المايكروويف، كما يحدث من اقتباس الأنموذج الغربي للنجومية والفن وتسويقه عبر أصوات عربية... ونضعها في قوالب جاهزة مثل عرب آيدول وسوبر ستار وستار أكاديمي وغيرها! في الماضي ارتبط الفن بالسياسة بشكل جميل، كان كل منهما مرآة تعكس الأوضاع السياسية والاجتماعية فعلى سبيل المثال جاءت أغاني أم كلثوم وعبدالحليم الحافظ إبان الثورة المصرية وخلال النكسة وإبان العبور لتكون صوت كل مصري آنذاك. وأيضاً لا ننسى في بيروت صوت فيروز الشجي الذي صور لنا لبنان في أجمل حالاتها حتى في ظل الانتكاسة التي شهدتها بيروت خلال سنوات الحرب الأهلية، وأيضاً صوت ماجدة الرومي الدافئ وهي تشدو برائعة نزار قباني ست الدنيا يا بيروت، وصوت الجنوب الجميل المتمثل بصوت جوليا بطرس وهي تشدو ب»وين الملايين؟!». وفي فلسطين أين منا ريتا وبندقية محمود درويش التي غناها مارسيل خليفة...! هذا الثنائي الرائع الذي جسد الحزن الفلسطيني في أبهى حلة قبل أن يرحل محمود درويش ويترك الحصان وحيداً. أما في العراق فكان صوت يوسف عمر قامة من قامات العراق الشامخة وهو يشدو ب: (جلجل عليه الرمان نومي فزعلي، هذا الحلو ماريده ودوني لأهلي)، في تورية سياسية إلى العثمانيين، حيث كان علم العثمانين أحمر والليمون الأصفر هنا إشارة إلى الإنجليز، والأغنية تقول بتورية على لسان رجل عراقي لا العثمانيين ولا الإنجليز ودوني لأهلي أي لا أريد سوى حكم العراق، وهذه أغنية جميلة تعكس الوضع السياسي الذي كان يعصف في العراق بداية القرن الماضي. بالإضافة إلى صوت ناظم الغزالي ومقاماته الرائعة التي جسد فيها بصوته الموسيقى العراقية في أجمل صورها. وقصيدة أنشودة المطر رائعة بدر شاكر السياب التي غناها محمد عبده، التي جاء مطلعها الشهير: عيناك غابتا نخيل ساعة السحر، أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر، ويدعو فيها السياب المطر بقوله: «مطر.. مطر.. مطر.. في كلّ قطرة من المطرْ حمراء أو صفراء من أجنَّةِ الزَّهَرْ» وهي ترميز للثورة العراقية التي أطاحت بالحكم الملكي في العراق كما يقول الإسلاميون والذين هاجموا أنشودة المطر بحجة أنها قصيدة شيوعية! مطر.. مطر.. مطر.. إنها الثورة التي نادى بها السياب للعراق والتي ستجلب العدالة الاجتماعية والرفاهة والاستقرار لكن على ما يبدو أن غيمة المطر تلك لم تمر سحبها على العراق حتى الآن. أخشى وكل ما أخشى أن يأتي الزمن الذي سوف نترحم فيه على «يا واد يا تقيل» للراحلة الجميلة سعاد حسنى في زمن فناني شركات المياه الغازية!