تعود الطفلة ذات العشر سنوات من مدرستها بوجه يحمل علامات الشيخوخة، وقلب يحمل هموم السنين، التي لم تعشها بعد، وتنزوي في غرفتها عازفة عن الحياة، لا رغبة لديها بالحياة، وترفض الوجبة، التي كانت تشتاقها وتحرص عليها وسط أسرتها. وتسألها والدتها عن حالها وصحتها، وتجس على جبينها، ولكنها لا تجد ما يستدعي القلق، فتتركها لترتاح، فربما أنها قد أرهقت نفسها في اللعب والجري والشقاوة والتنطيط مع زميلاتها بالمدرسة. ويخرج الأب لقضاء بعض الأعمال عصراً، وعند عودته يلمح على سريره رسالة ملفوفة بشريط أسود، ويعرف أنها رسالة من ابنته، ويسعد فربما تكون رسالة حب له، أو طلباً طفولياً تخجل أن تصرح به. ويفتح الرسالة ليصعق بما فيها من كلمات حزينة، كئيبة، مبكية!. لقد كانت الجمل البسيطة، التي سطرتها له ابنته تؤكد على أنها قد دخلت في حالة كآبة شديدة، فهاهي الطفلة البريئة، المقدمة على الحياة، تكتب وصيتها من بعد مماتها لوالديها وإخوتها!. ويستغرب الأبوان مما يحدث، فما الذي يحدو بابنتهما لأن تغادر مبكراً عمر الطفولة، وما الذي يجعلها تفكر في الموت بهذه الصور القشيبة، وأي وصية يمكن أن تكتبها ابنة العشر سنوات!؟. ويتمعن الوالدان في الوصية فإذا هي تنصحهما بألاَّ يحزنا عليها إذا ماتت، وألاَّ يجزعا من قضاء الله، وأن يتصدقا، وأن يحجا نيابة عنها، وأن ينتبها لأخوتها الصغار، وأن يعتنيا بصحتهما، وأن لا يهملا علاجاتهما، وأن يتخلصا من التلفزيون والحواسيب قبل فوات الأوان!؟. تلك الجمل، التي كتبت بخطوط اليأس كانت عجيبة مدهشة محزنة، وجعلت الأبوين يشعران بأن ابنتهما بلا شك تعاني من مرض خطير، أو أن الله قد ألهمها بأن الموت قادم لها على جناح السرعة. ويحمل الأبوان ابنتهما على عجالة، والدموع تتسابق في أعينهما إلى أقرب مستشفى، فلعلهم يلحقون بما يمكن اللحاق به. ويقوم الطبيب بالكشف عليها من جميع النواحي، ولا يجد ما يمكن أن يكون خطراً، ويحاول أن يعرف أكثر من الطفلة، فتُسر له بأن ما فعلته يُعد عملاً دينياً صائباً، وأنه يجب على كل الأطفال أن يكتبوا وصاياهم، وأن يستعدوا للموت القادم، فيسألها الطبيب أكثر، فتشرح له أن ذلك ما أقنعتها به مدرسة مادة الدين، والتي كانت تشرح لهن كيف أن الوصية، وانتظار الموت هو ما يجب عليهن كطالبات القيام به بدلاً عن اللهو واللعب، والانغماس في ملذات الحياة!. ويعود الوالدان للمدرسة للاستعلام عن هذا المنهج الغريب، الذي يُعطى لابنتهما، وهل هو منهج الحكومة المقرر؟. وتكبر المفاجأة، وتتضخم، وتصل إلى ما لا يعقل، فإدارة المدرسة، ذات التوجه المتشدد، تعمل على توطين الفكر المتشائم لدى الطالبات، حتى أنهم قد أضافوا للمنهج دروساً إضافية (كنوع من النشاط العملي)، لكيفية تلقين الشهادة للمتوفى، ولعملية تحضير الكفن، وغسل الموتى، وتكفينهم، وحفر القبور، والدفن، وصلاة الجنازة، وكيفية تأدية العزاء!؟. ويستشيط الأب غضباً، ويهدد بالرجوع للجهات العليا، فلا يجد إلا كلمات تكاد أن تخرجه من الملة، فكيف يرفض أن تكون ابنته مسلمة، عارفة بأمور دينها؟!. حسبما كان يردده عليه مدير المدرسة المستنكر لثورة غضبه. ويقف الأب حائراً، فماذا سيعمل في هذه الحالة، وهذه المدرسة الخاصة هي الأقرب لمنزله، وهو لا يريد لابنته أن تدرس في مجاهل المدارس الحكومية. وتزداد حيرته، ويظل يسأل كل من يقابله، هل أنقل ابنتي من هذه المدرسة؟. وهل أضمن أن أجد مدرسة تلتزم بالمنهج المقرر على الأطفال، دون قهر لرقة مشاعرهم، وقتل لبراءة طفولتهم، وجعلهم يشيخون قبل أن يذوقوا طعم الحياة. وهذا الأب ككثير غيره ممن يعانون، من الفكر المتطرف المولد للإرهاب، وحتى وإن كانت مدارس أبنائهم في أرقى حارات العاصمة، وحتى وإن كانت تمتص دمه بالمصاريف المتزايدة، إلا أنها تظل مناطق خطورة تخلق لنا جيلا مكتئبا متشائما، يعشق الموت، ويستدنيه، جيل لن يجد غضاضة في أن يكون قنابل موقوتة للمستقبل. أين وزارة التربية والتعليم مما يحصل في كثير من مدارسنا؟. أين لجان الرقابة، والإشراف على المناهج، والأنشطة، وعلى المعلمين، ممن لا يمكن أن يكون لديهم أي أسس للتربية السليمة، ولا للتعليم المفيد البناء، الذي يعشق الحياة، ويصب في صالح الوطن. صرخة نداء مكلومة من كثير من المتضررين، ممن يجدون أبناءهم وبناتهم في عمر الشيخوخة، قبل الحِل. صرخة استغاثة، تسأل الوزارة، ما هو الحل؟