تعرف نفسها جيدا، وتحفظ الخانة التي حُشرت فيها منذ أن كانت طفلة صغيرة نحيلة سمراء، لا تقترب من دائرة زميلاتها الجميلات، اللواتي كن واجهة المدرسة ويحملن الورد للضيوف مرتديات ملابس تراثية مطرزة، يعتلين منصة الخطاب في الحفلات المدرسية، والشرط لديهن أن يكن من ذوات البشرة البيضاء! هي سمراء، إذ ولدت تشبه والدها بملامحه العادية، بينما ورثت عن والدتها لون بشرتها الغامقة، التي صارت فيما بعد سببا معقولا ومقبولا لتأجيل فرصها في «المشاهدة» من قبل العريس« المناظر» الذي طالما ضمت قائمته الشقراوات نقيات البشرة، صاحبات العيون الفواتح. إنها عادة مجتمعاتنا المسترخية تماما للقوانين وأحكام التقاليد وحتى للأذواق الجاهزة، التي تقسّم اللوحة بشكل عمودي فهذا ذكي وذاك غبي، وهذه جميلة وتلك دمها خفيف، قصة نجاح وقصة فشل، قائد أحبه وقائد أكرهه، زمن جميل وزمن تعيس، أبيض ناصع وأسود حالك. إن عادة مجتمعاتنا التي في معظمها كانت، وما تزال، تتوسط الأسماء والأفعال والأحوال، وتمارس كل عادات وظروف المنتصف الخالي من أي إضافات، فحين تأتي فرصة هذه المجتمعات في إطلاق الأحكام وإبداء الآراء، تخرج مسطرتها العتيقة، وتقسم الصورة إلى قسمين متساويين تماما، أحدهما يعتلي القمة والآخر ينزوي في القاع، ولا أحد في المنتصف! ولأننا مجتمعات تتكاثر بالوراثة الجينية والبيئية والعقائدية، نجد أنفسنا نكرر الأسلوب ذاته في كل أمر يتطلب منا أن نبدي موقفا منه. هذا الخطأ الذي يبدو ألّا نهاية له، وضعنا فيما سبق كما يضع أبناءنا اليوم في محكمة غير عادلة ذاتها، فتصنف القضايا إلى شقين اثنين، فإما جمال مطلق وذكاء فذ ودرجات مرتفعة، ومواهب نادرة وأدب جم ودين كامل، فبراءة مع مرتبة الشرف، أو بساطة وفقر في كل ما سبق، ويكون الحكم بالسجن المؤبد في زنزانة الأقل حظا. و رغم أننا نعي تماما بأن معظمنا من الطبقة المتوسطة في كل شيء، إلا أننا لا نعترف بذلك إلا قليلا، وربما يكون الاعتراف تحت ضغط شديد. هذا الإنكار في الحقيقة يضيع فرصا حالمة طموحة، في نفوس أولادنا المتوسطين في الذكاء والتحصيل الدراسي، والملامح والمواهب. قد يُقال: ومن يفعل ذلك بأولاده فلذات أكباده؟ صحيح أننا لا نكسر نفوس أولادنا فلذات أكبادنا، لكننا نفعل ذلك في أولاد الآخرين، كما يفعل الآخرون الشيء نفسه بأولادنا! و بالعودة إلى الآنسة «خفيفة الدم» كمثال حي على ذلك: أليس من العيب في رأيكم أن تعمد شركات التجميل إلى طرح إعلانات مسيئة جدا للسمراوات، تعتمد على فكرة واحدة هي أن تفتيح البشرة، هو الطريق الوحيد للنجاح؟! لو لم يكن المجتمع قابلا ومتقبلا لتلك الشكلية والسطحية في طرح الحلول لإشكاليات من المفترض أنها غير موجودة أساسا في حساباته؛ لم يكن الإعلام والإعلان والفن ليتجرأوا على الخلقة الربانية، والفكرة السليمة لقيمة الإنسان ودوره الحقيقي في الحياة. فأنا لم أفهم كيف لكريم بشرة، أن يمنح فتاة طموحة فرصة عمل، وهي في الأصل رسامة ومصممة أزياء متميزة؟ ولماذا لا تكتمل طلة عروس سمراء في يوم فرحتها إلا بعد ثلاثة أسابيع من استعماله، لتصبح بيضاء متلألئة؟ ومن قال إن طالبة مجدة تعتزم تقديم خطاب أمام المدرسة، ستفشل بالتأكيد إن لم تلجأ لمبيّض البشرة قبل الحفل بأسابيع؟ هذه الصورة بالضبط هي التي تختصر الحكم المطلق، والقيد المطبق على أعناق مفاهيمنا مع الأسف!