من سواحل عمان، وشط العرب شرقاً، إلى شواطئ الأطلسي في أقصى الغرب، ثمة مساحة جغرافية ضخمة لها عمق تاريخي، يضرب في العراقة والتأثير خلال خمسة عشر قرناً خلت، كانت خلالها تلك الكنائس التي عرفها عرب الجزيرة العربية، وهم في عنفوان قوتهم، وعتو تأثيرهم، وقمة اعتزازهم بدينهم خارج نطاق الحروب، وبعيداً عن أيادي التخريب، واليوم وفي هذا العصر الصادم ثمة تحول تاريخي سلبي يصنعه مَنْ خرجوا للتو من «حافظاتهم» ليكونوا أشجع من أبي القعقاع التميمي، وأمهر عسكرياً من خالد بن الوليد، وأفهم لما ينفع المسلمين من عمر بن الخطاب، الذي أعطى النصارى أماناً على صلبانهم، ودور عباداتهم في فلسطين. ظلت الكنائس جنباً إلى جنب مع مساجد الله التي يُذكر فيها اسمه. كان الخلفاء يمتنعون عن تحويل الكنيسة إلى مسجد، أو إيذاء رهبانهم رغم أنهم كانوا في عصر يسمى «ظلامياً» لدى الآخرين، وباستثناء تحويل كنيسة أيا صوفيا إلى مسجد في زمن الخلافة العثمانية، فإن عصور النهضة العربية الإسلامية لم تكن إلا برداً وسلاماً على النصارى، وهم مواطنو هذه الأرض والمساهمون في صنع حضاراتها، بل حتى اليهود الذين هربوا من محاكم التفتيش في غرب أوروبا لم يجدوا ملاذاً آمنا إلا في أحضان هذه الحضارة التي لا تفرِّق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، وأي معنى كبير للتقوى، تلك التقوى التي تبدأ بتقوية جانب الخوف من الخالق فيما يُغضبه من إيذاء خلقه، وسفك الدماء، وترويع الأبرياء.