تخيَّل معي أن لديك عزيزاً، أو قريباً يعاني من معضلة صحية، تلك المعضلة الصحية ظلت ملازمة له طوال سنوات، وعانى منها كثيراً، وبعد أن بحث دون جدوى عن علاج لها في المستشفيات والعيادات، جاءته النصيحة الذهبية المعتادة: لماذا لا تسافر إلى الخارج إلى دولة أوروبية، أو أمريكية لتجد العلاج الشافي بإذن الله؟ ولن يجد الناصح مشقة في تعداد المعارف والأصدقاء الذين مروا بذات التجربة، ووجدوا بغيتهم في تلك البلاد المتقدمة. حسناً لنفترض أن صديقك العزيز سافر بالفعل إلى إحدى الدول المتقدمة، وكتب الله له الشفاء هناك، وعادت إليه صحته وعافيته التي افتقدهما من قبل، تُرى ما هو افتراضك وتصورك عن مستوى الصحة العامة للمجتمع في تلك الدولة المتطورة؟ لابد أنك ستفترض بحكم تجربتك الشخصية أن أفراد المجتمع في تلك البلاد ينعمون بمستوى رعاية صحية أفضل، وأنهم لا يعانون من الأمراض المزمنة والمنهكة، وأن لكل مرض علاجاً ناجحاً لديهم، وبالتالي فإن أفراد المجتمع ينعمون بمستوى صحة عامة لا يعلى عليه. ولو أنك رافقته في السفر، وشاهدت مدى تطور البنية التحتية والطرق والمباني، والتقدم التكنولوجي الهائل في كل شيء، ستفترض أن مستوى التعليم والأمن والاستقرار لاشك سيكون في أفضل مستوياته. تلك الفرضية التي ربما راودتك كانت حقيقةً مطلقةً ومُسلَّماً بها لدى معظم علماء الاجتماع والاقتصاد حول العالم، فدائماً ما يتم ربط مستوى الرعاية الصحية والتعليم والاستقرار بمستوى رفاهية وارتفاع دخل الدولة، وارتفاع مدى الإنفاق على الرعاية الصحية والاجتماعية. تلك كانت نظريةً مُسلَّماً بها على نحو واسع حتى جاء مَنْ ينقضها من جذورها في عام 2009، قام عالمان من علماء الاجتماع المرموقين، يدعيان كيت بيكيت، وريتشارد ويلكنسون، بنشر دراسة طويلة، قارنا فيها بين أكثر من أربعين دولة حول العالم بما فيها الولاياتالمتحدة، وبريطانيا، والدول الأوروبية، واليابان، وعدد من الدول على امتداد الخارطة. قارنت الدراسة معدلات الصحة العامة في تلك الدول بما فيها متوسط العمر عند الوفاة، ومعدل وفيات الأطفال، وانتشار الأمراض المزمنة، ومستوى الصحة النفسية، ونسبة انتشار المخدرات، وعدد آخر من العوامل المجتمعية. المدهش في الأمر أن الدراسة وجدت أن الدول التي حققت مستويات أعلى في كل تلك المؤشرات ليست الدول ذات الدخل الأعلى، ولا ذات المستوى المتقدم في الرفاهية، بل كان هناك تباين كبير بين تلك الدول رغم ارتفاع الدخل فيها جميعاً. العامل العجيب والغريب الذي ميَّز الدول الأفضل عن غيرها هو مقدار العدالة في توزيع الدخل بين السكان. نعم، أنت لم تخطئ في قراءة العبارة، كانت الدول التي تحترم ميزان العدالة الاجتماعية، ولا يوجد فيها تفرقة بين السكان في مستوى الدخل والخدمات، هي الدول التي حققت أعلى المستويات في معدلات الصحة العامة، والصحة النفسية، بل وحتى في مقارنات أخرى مثيرة للدهشة، فحتى مستويات العنف المجتمعي، وانحراف المراهقين، وتعاطي المخدرات كانت مرتبطة ارتباطاً مباشراً بدرجة العدالة في توزيع الدخل، وحتى على مستوى الولاياتالمتحدة نفسها كانت الولايات الأكثر عدالة تنعم بمستويات صحة بدنية ونفسية وعنف أقل من الولايات الأقل عدالة، ووجدت الدراسة أن الأمريكيين الذين يعيشون في ولايات عادلة، يعيشون أعمارهم بمعدل أربع سنوات أكثر من مواطنيهم الذين يعيشون في الولايات الأخرى. حتى معدلات السُّمنة بين المواطنين، والأزمات القلبية، وحوادث الانتحار، وُجِدت أكثر بين ساكني الدول الأقل عدالة في توزيع الدخل. هل تريد مفاجأة أخرى؟ حتى مستوى الوعي البيئي، ودعم القرارت المناصرة للبيئة مثل خفض الانبعاث الحراري، كانت تجد عدداً أكبر من المناصرين في الدول والولايات ذات التباين الأقل في الدخل بين المواطنين. هل من تفسير منطقي لكل ذلك؟ حاولت الدراسة إيجاد مبرر علمي موضوعي لكل عامل على حدة، واستفاض الباحثان في سياق الأرقام والمؤشرات والعوامل، لكن من وجهة نظري المتواضعة هناك تفسير بسيط لكل تلك الأرقام المعقدة والمدهشة، إنها المقارنة الأبدية بين بركة العدل، وجور الظلم، بين نور الطاعة الذي يشمل كل شيء، وظلمة المعصية التي تمحق كل شيء كذلك. إنها التصديق البسيط لمشكاة عريضة من الآيات والأحاديث النبوية التي توصي بالعدل والرحمة وأداء الحقوق والإحسان إلى الجار والقريب والمسكين. لكن المؤسف أن تكون دول مثل اليابان والنرويج والدنمارك وفنلندا أكثر التزاماً بأوامر الله ورسوله من الذين يصلون باتجاه القبلة خمس مرات كل يوم دون أن ينعكس ذلك على سلوكهم ولو قليلاً!