في الثمانينات الميلادية كانت الحرب العراقيةالإيرانية في قمة اشتعالها بين البلدين، وكان صدام حسين في تلك الفترة هو النجم الأوحد للصحف و قنوات الإذاعة القومية، وكانت تنشد في مدحه القصائد وتدبج المقالات الطوال عن شجاعته وفروسيته وما يتحلى به من حنكة وحكمة وبعد نظر، بل وتمادى بعض الكتاب العرب فبشروا به فاتحاً للقدس في القريب العاجل، لكن وبمجرد انتهاء الحرب العراقيةالإيرانية، حرك صدام جيوشه ودباباته نحو الجنوب وشرع في احتلال الكويت والزحف نحو الحدود السعودية، هنا أصيبت الأقلام المادحة بالصدمة والدهشة وكأنها تكتشف شخصاً آخر غير ذلك الفارس الذي رفعوه فوق السماء السابعة، وأذكر أبياتاً معبرة كتبها الراحل غازي القصيبي تعبر عن لحظة الذهول تلك بصراحة وصدق، يقول رحمه الله: سيفنا كنت، تأمل سيفنا كيف أهدى قلبنا الجرح العميقا درعنا كنت وهذا درعنا حربة في ظهرنا شبت حريقا جيشنا كنت، أجب يا جيشنا كيف ضيعت إلى القدس الطريقا؟ ما لم يشأ أن يعرفه الشعراء والكتاب من المادحين، أن الرجل هو ذات الرجل، سواء كان في حربه مع إيران أو في غزوه الكويت، لم يغير عقيدته ولم يتحول من ملاك إلى شيطان بين ليلة وضحاها، بل ربما كانت دوافعه لدخول الحربين هي ذاتها، لكنهم عندما كانت مواقفه تتناسب مع توجهاتهم وأفكارهم أو مصالحهم رأوا فيه الفارس الشهم المقدام وسيف الأمة العربية المسلط على أعدائها، وعندما ارتكب جريمة غزو الكويت أصبح الشيطان الأكبر والعدو الأول للعروبة والإسلام، في كلتا الحالتين فشلت قصائد المديح وقصائد الهجاء في نقل الصورة الحقيقية للواقع والأحداث، أعمتنا قصائد المديح عن التنبؤ بالخطر القادم من رجل يحكم دولة بالحديد والنار لعدة عقود، وينكل بكل من حوله بلا رحمة متى شعر أنهم خطر عليه، وأعمتنا قصائد الهجاء بعد ذلك عن استيعاب أبعاد المؤامرة ولعبة الأمم التي دارت على رقعة شطرنج المنطقة ببراعة بالغة وظللنا نحن لانرى فيها إلا بعبع صدام حسين حتى بعد سنوات طوال من خروجه من مسرح الأحداث. ما الغاية من سرد كل تلك الذكريات؟ ربما لأن طوفان الأحداث من حولنا يجعل ذات المشهد يتكرر بصيغ وعبارات أخرى، لكنها ذات نفس الدلالة، لاحظ أنه في خضم كل حدث، ستجد من يحاول أن يبسط لك المشهد بجعله منقسماً بين ملائكة وشياطين، أشرار وطيبين، أناس أنقياء أبرياء على طول الخط و أبالسة مجرمين على الطرف الآخر. هذه المعادلة البسيطة التي تريح العقل من عناء التفكير والبحث والتقصي، وتمنحك ثقة يقينية مطلقة يصعب بعدها قياس أي شيء بميزان العدالة والإنصاف. خذ على سبيل المثال لا الحصر مايجري في العراق الآن، هناك عدة أطراف تتصارع، هناك معارك ضارية في مدينة الموصل، معارك يشارك فيها الجيش العراقي الذي تقوده حكومة طائفية إلى جوار الحشد الشيعي الملوثة صفحته بدماء أهل السنة، يفترض أن يقاتل هؤلاء عصابات الدواعش التي تحتل المدينة التي تنافسهم في الدموية. هناك أيضاً الجيش التركي الذي يقف على حدود المدينة دون رضى من الحكومة العراقية، هناك الدعم الأمريكي بالطيران والاستخبارات وهناك الأكراد و ميليشيات أخرى متفرقة، وهناك يوجد المستضعفون من السكان الذين قتلهم الحصار والجوع والمذابح الطائفية. ضميرك الحي يقودك دون شك لأن تتعاطف مع السكان العزل الذين نزحوا عن ديارهم وفقدوا كل شيء تقريباً، لكن هل تستطيع أن تقول بضمير مرتاح أنك تفهم ما يجري هناك أن طرفا ما من كل تلك الأطراف المتنازعة هو الذي على صواب؟ هل تستطيع أن تقول أي الأطراف أو الأفراد هو أمل الأمة وناصر الإسلام؟ تأمل الأزمة السورية، أنت تعرف أن بشارا يرتكب جرائم شنيعة ضد شعبه ويقتلهم بالبراميل المتفجرة، وأن روسيا هي من يدعمه جهاراً نهاراً، لكن ماهي حقيقة الدور الأمريكي؟ هل هم سعداء بالتدخل الروسي؟ وماذا عن إسرائىل؟ ماذا عن الفصائل التي تقاوم الاحتلال؟ لماذا هي أيضاً تقاتل بعضها بعضا؟ ما الذي تفعله داعش في سوريا؟ ولصالح من تعمل؟ ما الذي جرى للتحالف الدولي الذي يلاحقها؟ من هم الأخيار الذين يمكن أن يأتي النصر على أيديهم وكيف؟ ليس الأمر بهذه السهولة، وليس من العيب في شيء أن تقول لا أدري، وأنك لاتفهم حقيقة مايجري. فالاعتراف بالجهل هو درجة عالية من الفهم والاستيعاب لمدى إدراكك وتفريقك بين المعلوم والمجهول لديك، وهو نافذة مشرعة نحو التساؤل والبحث عن المعلومة الحقيقية حتى تجدها، بدلاً من اقتناعك بالوهم الذي يمنحك لذة مريحة ثم تستيقظ بعدها على صدمة عنيفة كتلك التي أصابت الراحل غازي القصيبي في فارسه الهمام.