ترجمت إلى هذه اللحظة، ثلاثة كتب حرصت فيها على التنوع. واحداً في أدب السيرة، وواحداً في التحليل السياسي، وواحداً في الفلسفة. الأول صدر في 2012، واثنان تحت الطبع. لعله من المناسب أن أستعرض في هذه المقالة هذه التجربة عسى فيها ما يفيد المترجم العربي والمثقف بصورة أشمل. عندما ترجمت (my left foot) سيرة أديب أيرلندي عانى من الشلل الرعاشي، شعرت أنني لم أترك له ولم آخذ منه إلا الأفكار. كل سطر في ذلك الكتاب هو لي، هو شعوري وانتقائي. كل جملة نقشتها بلغتي العربية، وكما أريدها أن تصل للقارئ العربي. أترك عديداً من المفردات وأختار هذه. أعدل وأحرر على مدى سنة، أغير وأشطب حتى تم. يقولون إن المترجم المحترف يستطيع أن يخرج بكتاب كل شهر، أما أنا فاخترت أن أُخرج كتاباً كل سنة، بحيث تكون ترجمته على الدقة المتناهية بعد أن أقوم بمراجعته عشرات المرات. لقد كشفت لي هذا التجربة، صحة دعوى المترجمين عبر العصور عندما ينسبون لأنفسهم الكتب التي ترجموها، والسبب في ذلك أنه ليس للكاتب الأصلي إلا المعنى، أما طريقة إيصال ذلك المعنى فهي متروكة بالكامل للمترجم. بعبارة أخرى الكتاب كتاب المترجم، هو من كتبه ونقشه وزيّنه. في ترجمتي لكتاب (supreme command) وهو في فن التحليل السياسي، ويناقش الخلاف بين الحاكم المدني والقائد العسكري في زمن الحرب، حصل ذات الشيء. لم يبق للمؤلف إلا الأفكار، أما اللغة التي كُتبت بها الترجمة، فهي لغتي وكلماتي وأسلوبي وطريقتي في التعبير كما في مقالاتي وكتبي. ليس للأمريكي إيليوت كوهين المحلل السياسي المتمكن من كتابي هذا، إلا الأفكار فقط. أما الكتاب فمن ألفه إلى يائه، كان من نسيجي. في مشكلات الفلسفة (problems of philosophy) لبرتراند راسل غابت الحميمية التي عشتُها مع الكتابين السابقين، فلم أشعر أنها كلماتي ولا نسيجي؛ لأنه في عالم الترجمة الفلسفية، لا مجال للإبداع ولا الخيال ولا الاختيار. هناك مصطلحات يُلزمني بها المعجم الفلسفي ولا يجوز الخروج عليها؛ لكي يصل المعنى. لا مجال للغة المجاز العربية تتحرك فيه؛ لأنها قد تحرف المعنى. لا يمكن أن تأتي عند مصطلحات هيجل عن (الاغتراب) و(الجدل) و(الروح) بحيث تترجمها بمعناها اللغوي مُعرضاً عن معناها الاصطلاحي الشاطح. في الفلسفة والكتب العلمية تكون المساحة التي يتحرك فيها المترجم ضيقة جداً، خصوصاً أن العربية ما زالت ليست لغة العلم الحديث بمعناه الضيق. لغة العلم تتغير بحسب نهوض الأمم وانحطاطها. ترجمة الفلسفة صعبة، لشدة تمسكها بمصطلحاتها التي تختلف عن لغة عامة الناس، فلا تترك لك مجالا لكي «تتفلسف»؛ كونها صعبة لا يعني أنها مستحيلة، بل هي ممكنة ويمكن أن تكون بوابة لفهم أعمق لهؤلاء المفكرين الكبار. ماذا عن ترجمة الشعر؟ حاولت كثيراً أن أترجم الشعر، ولكني لن أنشر صفحة واحدة من تلك المحاولات. ونصيحتي للمترجمين بطول وعرض العالم في كل اللغات أن يتوقفوا عن ترجمة الشعر، فالشعر لا يُترجم، ولا ينبغي له أن يُترجم، ولا يصح له أن يُترجم. هو شيء حبيس في لغته. أعجبك شاعر عظيم؟! حسناً، اكتب دراسة عنه بلغتك واستعرض أفكار شعره ومعانيه. اعترض بعض إخواني على هذا الرأي، بترجمة أحمد رامي لرباعيات الخيّام، وعبدالوهاب عزام مع شعر إقبال، وابن المقفع وحسن ظاظا وجبرا إبراهيم مع شكسبير. إلا أن هؤلاء المترجمين هم أيضاً شعراء عظام، والنصوص التي كتبوها هي نصوص شعرية جديدة كل الجدّة، وليست نصوص الخيام وإقبال وشكسبير، وليس للشاعر منها إلا الأفكار.