كان شيشرون، فيلسوف الرومان، يصف هيراقليطس اليوناني بالغموض، وقد أشاع هذه الفكرة، لكن الصحيح هو أن شيشرون كان رجلاً سطحياً حاول أن يعكس سطحية نفسه على هيراقليطس. هذا الغموض كان بسبب احتواء فلسفة هيراقليطس على فكر نظري عميق لم يستطع شيشرون إدراكه. عند هيراقليطس «كل شيء في تدفق دائم، فلا يبقى شيء على حال» و «لا أحد ينزل النهر مرتين» لأن النهر دائم التغير. هذا المبدأ يمكن أن نصوغه في مذهب فلسفي فنقول إن هيراقليطس ذهب إلى أن الصيرورة هي حقيقة الوجود، بدلا من الوجود والعدم. أما فيما يتعلق بالوعي البشري، فهيراقليطس هو أول من تحدث عنه من الفلاسفة، وذلك عندما كتب «إني أبحث عن نفسي» فجعل الوعي يواجه الوجود ويتخذه موضوعاً. هذا المذهب، طوره هيجل في أواخر القرن ال 18 وال 19، فقضية هيجل الرئيسة هي أن كل شيء غير الكل، هو شريحة مقتطعة من الكل، ومن الواضح أن هذه الشريحة غير قادرة على الوجود دون تكملتها من قِبل بقية العالم. كل ما يظهر أنه قطعة معزولة من الحقيقة، لديها مشبك يوثقها بقطعة أخرى من الحقيقة، والقطعة الأخرى لديها بدورها مشبك آخر جديد، حتى يتم إعادة بناء كل الكون من جديد. وعدم الكمال الجوهري هذا – عند هيجل – يظهر بنفس الدرجة في عالم الفكر وعالم الأشياء. في عالم الفكر، عندما نأخذ أي فكرة مجردة أو غير مكتملة، فإننا نجد عند الفحص، إذا نسينا عدم اكتمالها، أننا نقع في التناقض. وهذا التناقض يحوّل الفكرة إلى نقيضتها، ولكي نهرب من هذا التناقض، لا بد أن نجد فكرة تكون أقرب للاكتمال، وهي التي يسميها هيجل: المركب، مركب من فكرتنا الأساسية ومن نقيضتها. هذه الفكرة الجديدة عدم الاكتمال فيها أقل من الفكرة التي بدأنا بها، لكنها هي بدورها غير كاملة، وستنتج عنها نقيضتها، ومن الثنتين يتكون مركّبهما. هل من أمثلة توضيحية تساعد على فك هذه الشفرة الغامضة؟ نعم، الأمثلة كثيرة. الرأسمالية والماركسية والمركب منهما. مثال أقرب: الصحوة واللبرالية والمركب منهما. مثال أقرب: أنت بالأمس وأنت اليوم وأنت غداً. دعنا نعقد مع هيجل صفقة اتفاق جزئية، صفقة لا نوافق فيها على كل ما يقول، لكنها تسلّم له أنه وهو يتحدث عن روح العالم، قدم شرحاً بديعاً لدوامة الفكر الذي لا يزال في تغيّر مستمر وصيرورة، وأننا اليوم لسنا كما كنا في أعوام ليست بعيدة، ولا ندري كيف ستسير أمورنا في المستقبل. إذا استوعبت هذا جيداً، فلا تدع تناقضك الشخصي يرعبك. لا تخف فما هي إلا مرحلة انتقالية نحو الأكمل. ليس شرطاً أن تسير كل صيرورة نحو الأكمل، لكنك تستطيع أن تجعل مسيرتك نحو الكمال. سأقف عند هذا الحد، وسأترك للقارئ الكريم كتابة الحاشية، فكل إنسان سيكتب طريق كماله بنفسه.