عرفت الفلسفات القديمة مبدأ الكمون، واعتبره بعض قدماء فلاسفة اليونان من المبادئ الأساسية في الفلسفة، وتردد في بعض صوره في الطبيعيات والإلهيات، وفي العديد من المشكلات الفكرية والفلسفية، وعلى الأخص مشكلة الجزء الذي لا يتجزأ، أو ما دعي «الجوهر الفرد»، ومشكلة قدم العالم، والحدوث وسوى ذلك. وفي الفكر الإسلامي، انتصر العديد من المتكلمين والفلاسفة لمذهب الكمون، وتحوّل إلى مذهب في الفكر الإسلامي، أقره بعضهم وانتقده آخرون وحاولوا دحضه. وتعتبر رجاء أحمد علي، في كتابها «الكمون والفكر الإسلامي» (بيروت 2011)، أن أكثر من انتصر له وقال به هو إبراهيم بن سيار النظام (توفي عام 231 هجري). ويعرف الخوارزمي الكمون في مؤلفه «مفاتيح العلوم»، بأنه استتار الشيء عن الحس، كالزبد في اللبن قبل ظهوره، وكالدهن في السمسم، بمعنى أنه مرادف للبطون، لأن من معاني الكمون البطون والاستتار، ويقابله التعالي. أما مبدأ الكمون فيتلخص بالقول بأن الكل داخل في الكل، أي أن كل شيء في كل شيء، بمعنى أن كل شيء فيه جزء من كل شيء. وترى رجاء أحمد علي أنه يمكن تطبيق الكمون في مجالات متعددة، فإذا طبق في المجال الانطولوجي دلّ على أن جميع عناصر الوجود، يتضمن بعضها بعضاً، وتؤلف حقيقة واحدة. أما إذا طبق في المجال المعرفي فيعني استحالة وجود شيء خارج الفكر، لأن الفكر لا يعرف إلا ما سبق وجوده فيه، ولا قدرة له على معرفة الأشياء المستقلة عنه، فالكامن إذاً هو ما ينطوي عليه باطن الشيء من صفات دائمة، وهو أيضاً ما يلازم طبيعة الشيء. وتُلخص مذهب الكمون عند النظام في القول إن الله تعالى خلق العالم دفعة واحدة، ولم يسبق إنسان في حدوثه إنسان آخر سبقاً أو تأخراً زمانياً في الخلق، بل التقدم والتأخر يتمثل في ظهور الاشياء من مكامنها، فالله خلق صفات المادة، وأكمنها فيها دفعة واحدة، بحيث أن ظهورها بعد ذلك لا يصبح متعلقاً بذواتنا المدركة ولا حتى بخلق الله لها في لحظة الإدراك، بل بظهور الصفات من مكامنها، بعد أن كان خلقها الله أول الامر، ثم أخذت بعد ذلك تتوالى في الظهور، عندما هيئت لها الظروف المناسبة، وزالت الموانع التي كانت تمنع ظهورها. ودلّل النظام على مذهب الكمون بأمثلة عديدة، منها قوله بأنه إذا عصر السمسم تولد عنه دهن وزيت. وأوضح قوله بالكمون من خلال القول بكمون النار في العمود والحجر. ونسبت إلى النظام أنواع متعددة من الكمون، مثل كمون القوة، الذي يجسده كمون النخلة في النواة والإنسان في النطفة. وكمون الأضداد الذي يجسده القول إن الأجسام تتكون من عناصر متضادة يكمن بعضها في بعض. لكن رجاء أحمد علي ترى أن الكمون عند النظام هو مزيج من عناصر متعددة، اذ يمكن أن نجد تشابهاً بين مذهب انكساغوراس ومذهب الكمون لديه، إذ أن انكساغوراس ذهب إلى القول إنه لا يمكن إرجاع الأشياء المركبة إلى عناصر بسيطة، وإن تقسيم الأجسام ينتهي دائماً إلى أجزاء متجانسة في الكل. واختلفت مواقف الفلاسفة من مذهب الكمون، فذهب بعضهم إلى دحض ما أتى به أصحاب هذا المذهب، ومن بين هؤلاء في الفكر اليوناني أرسطو. وانتقده فلاسفة كثر في الفكر الإسلامي كابن سينا، الذي انتقده حين تناول الآراء التي فسرت الكون والفساد ومن هذه الآراء مذهب الكمون، واعتبر أن أصحاب الكمون أنكروا الكون والفساد، وذهبوا إلى أن البسائط مثل الأرض والنار والماء لا تفسد جواهرها، بل لا شيء منها يوجد صرفاً في طبيعته، لأنه مركب من الطبيعة التي ينسب إليها، ومن طبائع أخرى. واتخذ ابن رشد موقفاً نقدياً من مذهب الكمون، من خلال اهتمامه بمشكلة أصل الموجودات، اذ انتقد أصحاب مذهب الكمون القائل إن كل شيء في كل شيء، كما انتقد أصحاب مذهب الاختراع القائل إن الموجودات وجدت عن عدم. ولا يقتصر الموقف النقدي لمذهب الكمون على الفلاسفة فقط، بل أن العديد من المتكلمين في الفكر الإسلامي وقفوا موقفاً معارضاً ونقدياً من مذهب الكمون، وعلى رأس هؤلاء المتكلمين ابن الراوندي والبغدادي والشهرستاني، وذهب ابن الراوندي إلى القول إن تسليم النظام بقدرة الله الكاملة على الخلق يعني أنه لم يزد أو ينقص شيئاً، وفي هذا تحديد لإرادة الله. وتستعرض أحمد علي موقف أصحاب الكمون من قدم العالم وحدوثه، وترى أن بعضهم ذهب إلى أن الكمون يؤدي إلى القول بحدوث العالم، واستندوا في ذلك إلى أن الله تعالى خلق العالم دفعة واحدة لا من مادة بل من العدم. وهناك من ذهب إلى القول إن الكمون يؤدي بصاحبه إلى القول بقدم العالم، لا سيما أن الكمون أقرب إلى فكرتي القوة والفعل. وهذه الأفكار تؤدي ضرورة إلى القول بقدم العالم، وإلى اتباع الفلاسفة الذين قالوا بقدم العالم. ولا شك في أن مشكلة قدم العالم وحدوثه من أهم المشكلات التي لعبت دوراً مؤثراً في الفكر الإسلامي بوجه عام، سواء عند الفلاسفة أم عند المتكلمين، لكن القول بالكمون لا يؤدي بالضرورة إلى القول بقدم العالم، ذلك أن الكمون يحتمل تأويلات عديدة، فأصحاب الكمون ذهب بعضهم إلى القول بحدوث العالم، وبعضهم الآخر ذهب إلى القول بقدم العالم.