لطالما انشغل المفكرون الإستراتيجيون عبر التاريخ بمشكلة السياسة والإستراتيجية، خصوصاً عندما يكون التفكير منصباً على الطريقة المُثلى لإدارة زمن الحرب، والطرق والمناهج التي تضمن انضباط الأمور بين المدنيين والعسكريين. هذا موضوع سياسي عسكري شائك، لكنك ولا بد ستعجب إذا وجدت أن عدداً كبيراً من المفكرين الإستراتيجيين، من ضمنهم المؤرخ الألماني العظيم جيرهارد ريتر Gerhard Ritter، قد حشروا اسم الروائي الروسي Leo Tolstoy ليو تولستوي، في كتاباتهم العلمية التي تعتزم مناقشة الأفكار التي تدور حول الحرب. لم يقولوا هذا روائي، ما دخله بالاإستراتيجية، بل تعاملوا مع رأيه بحب واحترام، برغم أنهم كانوا وما زالوا يرون رأيه شاذاً. في روايته (الحرب والسلام) يتحرك تولستوي على مسارين، وجهات النظر التي يرسلها على لسان شخصياته، ومسار آخر يتجاوز الشخصيات فيخاطب قارئه مباشرة، فماذا تراه قال؟ لو نظرنا في الخط الذي سار فيه سامويل هنتنجتون، ومعظم من كتب لينتقد أفكاره، لوجدنا أنهم يتحدثون عن استخدام القوة كنشاط يخضع للسيطرة المنطقية، أما تولستوي فيُنكر وجود المنطق في الحرب، من الأساس. تولستوي من أشهر العدميين الإستراتيجيين و (الحرب السلام) يمثل تأملاً جاداً ومتماسكاً في وجه الحرب من وجهة نظر من شهدها عن قرب ودرسها باستفاضة. حينما يواجه أبطال تولستوي المعركة فإنهم يقررون أنها لا تشتمل على شيء من الانتظام والنمط الذي توقعوه. يأتي بطله بيير بيزوخوف إلى ميدان بورودينو ويحتار، لأنه لم يستطع حتى تمييز جنود بلاده عن جنود الأعداء. وسرعان ما يعلم من الوهلة الأولى أن القتال الفعلي أكثر فوضى في نهاية المطاف، من الفوضى الأولية التي تشير إليها عمليات الانتشار الأولى. وصديق بيزوخوف، هو الأمير المنكوب أندريه بولكونسكي جندي محترف تذبل أحلامه في القيادة العليا حين يعلم الحقيقة بشأن الحرب. فبعد التطلع إلى تقليد بطله وعدو بلاده نابليون، يدرك أندريه تدريجياً أن العبقري العسكري نابليون الكبير، لم يكن سوى خدّاع ماكر. فيقرر أندريه أنه لم يكن ولا يمكن أن يكون هناك علم للحرب، وبالتالي ليس هناك شيء يسمى بعبقري عسكري. يتساءل تولستوي عن النظرية والعلم الممكن، حينما تكون الظروف والأحوال غير معلومة ويتعذر تقديرها. لا سيما حينما لا يمكن التيقّن من قوة شيء. حيث لا يمكنك التنبؤ بأي شيء. كل شيء يعتمد على ظروف لا تعدّ ولا تحصى كثرة، التي تصبح أهميتها ظاهرة في لحظة معينة، لكن لا يعرف أحد متى ستأتي تلك اللحظة. كلام تولستوي عن عبثية الحرب ينطلق من كثير من العاطفة، وشيء من العقل ومن المنطق أيضاً، لكنه منطق خاطئ، خصوصاً وهو يتحدث عن حروب نابليون والإسكندر الروسي ولم يتطرق لمن يدافعون عن أوطانهم لحمايتها من قوى الطغيان، ولو أطعناه لتحولنا لمجموعة من الخراف التي تستعد في كل لحظة للذبح. إنه منطق يفترض الخيرية المطلقة في الطبيعة البشرية، وهذا غلط، فالطبيعة البشرية ذات وجهين، ونزوعها للخير أو للشر يعتمد على الظروف المحيطة، وفي كل لحظة، سيكون هناك أخيار وأشرار. ولو أن العالم استبق الأحداث كما كان يطالب المفكرون الإستراتيجيون، وأفقوا أدولف هتلر قبل عام 1933 لما حدثت الحرب العالمية الثانية التي قُتل فيها 60 مليون إنسان من دون جدوى، ولما أصبح وجه العالم بالقبح والعدوانية الذي نراه اليوم.