أذكر أن ابني كان في الرّابعة من عمره حين جاءني يوما من مدرسته شغوفا بشؤون الأمان المنزلي وكيف تنشب الحرائق، وعن النّظام المروري وكيف له أن يحدّ من آثار النّوائب. ثم استمرّ على هذه الحال لمدة شهرين.. يرصد الإشارات المرورية ويتفاخر بمعرفته المعنى الّذي تحمله رموز كل لوحة بألوانها وأسهم اتّجاهاتها… ويتأكد من إغلاق أنبوبة الغاز قبل مغادرتنا المنزل، ويحدث أن يوقظني من عزّ وعمق لذّة النّوم أحيانا ليتأكد من أنني أطفأت المدفأة…! فقد كان المقرّر عليهم في تلك المرحلة العمريّة عنوانا تربويّا هو «الأمن والسّلامة في المنزل وخارجه» ويعمّم هذا الموضوع على كل المواد، بحيث يكون من صميم مدخلاتها. قراءة، حساب، وحتّى في حصّة المهارات الفنّية.. كلّها تتناول موضوع سلامة الطّفل. أذكر أنّهم أخذوا الأطفال في جولة صغيرة في نطاق جوار المدرسة، وأناملهم الغضّة تدوّن كل ما يرصدونه من قصور من قبل البلديّة في توفير إشارات إرشاد مرورية مناسبة، وفي الأمكنة اللازمة..! ثم قاموا بكتابة تقرير مدعّم بمطالب ومدعّم بصور ورسومات لا يمكن أن يتمالك أحدنا ابتسامته حين يرى ما تعج به من عفوية. وأخيرا قاموا بدعوة مدير بلديّة الضّيعة. قدّموا له باقة ورد مرفقة بتقريرهم طبعا، وبعد أن ناقشوه وأصغى إليهم، أخذوا منه عهدا بأنّه سيأخذ ما يقلقهم في الحسبان وشكر جهدهم. والتقطوا معه صورة جماعيّة، نشرتها صحيفة المدرسة. ما لفتني أيضا خلال تلك التّجربة الدّراسية الرّائعة وقتها، أنّهم قاموا بدعوتنا نحن الأهالي وعرضوا علينا «اعترافات» أطفالنا بشقاوتهم المنزلية المخلّة بقواعد السّلامة! قام كل طفل بتسجيل اعترافه بجملة، كتبها بخطّ يده.. «أنا ألعب بالكبريت»، «أنا أنطّ على السّرير»، «أنا أضرب أخي الصّغير على رأسه!!» وجملة لا يستهان بها من الاعترافات البريئة، لأذهان نظيفة، ستكبر يوما وتكون باقة عقول بهيّة حضاريّة، تعترف بأخطائها، لا تنكرها، وتتحمّل مسؤوليتها.. عقول تعرف معنى الحراك المدني السّلمي منذ نعومة الأظفار.