إنها أجواء الستينيات.. حمى الحرب الباردة، وعالم ما بعد جدار برلين، وسقوط النازية، وحمى محاكمات قادة الجيش الألماني الذين طاردهم الموساد في شتى أركان الأرض، وخطفهم وعرضهم للمحاكمات على الجرائم التي ارتكبوها في حق المدنيين اليهود. قائد شهير من قادة النازية يقف بثبات في وجه المحكمة، يرد التهم واحدة تلو الأخرى، بأنه غير مذنب، لقد قمتَ بقصف المدنيين؛ «لست مذنباً». اعتقلتَ الأبرياء؛ «لست مذنباً». أحرقتهم في أفران الغاز؛ «لست مذنباً.. أنا مجرد جندي أنفذ الأوامر، القادة هم الذين يعرفون الحقيقة وطاعتهم واجبة». بالطبع تتم إدانته وإعدامه، لكن تلك المحاكمة الشهيرة توحي لعالم نفس أمريكي بفكرة تجربة نفسية مثيرة، هل صحيح أن الناس الأسوياء والأبرياء من الممكن أن يتحولوا إلى قتلة ومجرمين لو تلقوا أوامر بذلك؟ أم إن ما يقوله القائد النازي مجرد حيلة بائسة للهروب من المشنقة؟ يقوم العالم الأمريكي بتصميم مسرح التجربة، التي سمَّاها تمويهاً «تجربة تطوير التعلم». غرفة اختبار مفصولة بجدار عازل، يفترض أن يجلس على جانبَي الجدار شخصان، أحدهما معلم والآخر طالب، جسد الطالب موصل بأقطاب كهربائية، يتحكم فيها المعلم في الطرف الآخر. يقوم مبدأ التجربة على أنه ينبغي للمعلم أن يلقن الطالب كلمات عبر جهاز تواصل صوتي يخترق الجدار، وفي كل مرة يخطئ فيها الطالب يقوم المعلم بمعاقبته بصدمة كهربائية ذات حدة متصاعدة تبدأ بخمسين «فولتاً»، وتتصاعد لتبلغ 500 فولت. ما لا يعرفه المعلم أن الطالب ليس سوى ممثل «أحد أعضاء الفريق الذي يجري التجربة»، وأنه لا صدمات حقيقية هنا، لكنه يتظاهر «صوتياً» بأنه يتألم ويتأذى مع كل صدمة يتلقاها، ومع تصاعد قوة الصدمات المفترضة يبدأ الطالب الوهمي في ركل الجدار والصراخ والتظاهر بالموت أحياناً. المعلم الذي يخضع للتجربة تم إخباره مسبقاً بأنه لا يتحمل أي مسؤولية قانونية تجاه الطالب، وأنه ينبغي عليه أن يكمل التجربة لمصلحة العلم، لكن تظل له حرية القرار في الانسحاب من التجربة في أي وقت. الغريب في الأمر أن معظم مَنْ شارك في التجربة أكملها حتى النهاية، ورغم تأكدهم من أن الطرف الآخر يتعرض إلى الأذى، وربما إلى الموت، واصلوا التجربة، بعضهم أبدى شيئاً من التعاطف، لكن بمجرد الإلحاح عليهم بطلب الاستمرار واصلوا المهمة القاتلة! نشر العالم النفسي الذي سيصبح شهيراً فيما بعد «ستانلي مليجرام» نتائج التجربة التي عُرفت بتجربة الانصياع إلى السلطة، وأحدثت ردة فعل عنيفة في أمريكا، فهي تقول إن الشعب الأمريكي مستعد لأن يصبح سادياً وقمعياً إذا تلقى أوامر من قادته بأن يفعل ذلك، وأنه لا فرق بين الجنود الألمان والجنود الأمريكيين لو خضعوا لنفس الظروف. تلقى الرجل كثيراً من النقد اللاذع، وتم إقصاؤه من جامعة هارفارد التي كان يدرس فيها، وعُلِّقت عضويته في الجمعية الأمريكية للطب النفسي، وربما شفع له أصله اليهودي في عدم التنكيل به أكثر من ذلك. لقد أثبت الزمن صحة استنتاجات مليجرام، فبعد تلك التجربة بسنوات قلائل ارتكب الجيش الأمريكي مذابح فظيعة في فيتنام، ومن ثم في العراق، وأفغانستان، تماماً كما توقعت التجربة، لكن البعد الإنساني الأعمق، الذي أشار إليه مليجرام في أحد تعليقاته، بأن الإنسان بمجرد أن يعتقد أنه وسيلة لتحقيق رغبة أناس آخرين، وأن مسؤولية أفعاله تقع عليهم، هو نقطة التحول الحرجة التي يفقد فيها إنسانيته، ويصبح بعدها أسيراً ومنصاعاً لصاحب السلطة، ويكمن التحدي الأكبر في انتظار اللحظة التي يستعيد فيها وعيه وسيطرته على نفسه التي غالباً ما تأتي متأخرة، أو لا تأتي أبداً. بعيداً عن بلاد العم سام، يمكنك الآن فهم لماذا ينكِّل الناس ببعضهم بعضاً دون إحساس بالذنب تجاه أنفسهم، أو بالشفقة تجاه مَنْ ينكِّلون بهم، ولماذا لا تردعهم ضمائرهم، أو حُسن تربيتهم عن ممارسة البطش تجاه مَنْ هم دونهم، ببساطة لأنهم أخضعوا أنفسهم لسلطة أوهمتهم بأن ما يفعلونه صحيح، وأنه لا تثريب عليهم فيما فعلوا مهما كان، لأجل ذلك تجدهم يستخدمون العبارة البليدة في تبرير فظائعهم التي يرتكبونها بقولهم «أنا عبدٌ مأمورٌ»، وكأنهم لم يقرأوا قول الله تعالى «إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين». اللهم ألهمنا رشدنا وأنر بصائرنا ولا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين.