قبل أن أدخل في صلب الموضوع وتشعباته التي لا تنتهي، لا بد من إثارة بعض الأسئلة المتعلقة به التي من المؤكد بأنها خطرت على بال عديد من الباحثين والمهتمين بدراسة الظواهر الاجتماعية المعقدة في المجتمع. ويأتي في مقدمة تلك الظواهر، ظاهرة «الانغلاق الفكري» إن صحت التسمية، لارتباطها الوثيق بداء خطير جداً ألا وهو التطرف بمفهومه الشامل، الذي غالباً ما يؤدي في مراحله الأخيرة إلى أن يلجأ الأشخاص المنغلقون فكرياً إلى إرهاب الآخرين وترويعهم بهدف إرغامهم على القيام بما يتوافق مع أيديولوجيتهم المتطرفة دون الأخذ في الاعتبار أن التنوع والتعدد من السمات الكونية التي أوجدها الله في الكون. لكن ما هي المراحل التي يمر بها أصحاب الفكر المنغلق؟ وما هي أبرز الأعراض التي يتصف بها أولئك المنغلقون؟ هل هم ضحايا تفسيرات خاطئة لتعاليم الدين الحنيف؟ لماذا لا ننشر ثقافة الاختلاف في مدارسنا وجامعاتنا بحيث نتيح للطلاب إصدار أحكامهم الخاصة دون أن نجبرهم بطريقة أو بأخرى على الأخذ بهذا القول أو ذاك؟ هل حقاً أننا مجتمع يؤمن بالتسامح والاختلاف؟ الإجابة على مثل هذه الأسئلة لابد أن تكون إجابة غير قطعية، بمعنى أن الاختلاف حول القضايا والإشكالات الاجتماعية أمر بديهي يتسق مع الطبيعة البشرية، بحكم أنها من الأمور النسبية التي من المستحيل أن يتفق حولها الجميع، خاصة أن ذات التيارات الدينية المعنية بهذه الإشكالية تعيش في خضم صراع محموم فيما بينها وإن كانت تتفق على الثوابت إلا أن الاختلاف حول الفروع يلعب دوراً حاسماً في لعبة الاستقطاب التي تدور رحاها في المجتمعات الإسلامية، وأغلب الظن، أن الاختلافات الفرعية أصبحت المحرك الرئيس للجماعات المتطرفة أكثر من الثوابت، بحيث أصبح اللجوء إلى بعض الفتاوى والاجتهادات التي تخدم مخططات الإرهابيين استراتيجية مفضلة لتبرير وحشيتهم واستهدافهم لأرواح الأبرياء، وفي هذا ابتعاد واضح وجلي عن روح وجوهر الدين الإسلامي، لأن تلك الفتاوى والاجتهادات بلغت مرتبة في عقول أصحاب الفكر المنغلق توازي مرتبة النص المقدس بكل ما تحمله العبارة من معنى!. ومن أبرز أعراض الانغلاق الفكري أن يعتقد المرء بأنه محور الكون كله، وأنه لا فائدة من تضييع وقته في الاختلاف مع الآخرين الذين لا هم لهم – بحسب اعتقاده – سوى تزييف الحقائق والوصول إلى مآربهم الشخصية على حساب الأمة التي يدعي دفاعه عن قيمها ومبادئها خشية من أن يطالها الانحلال والتفسخ على أيدي المخالفين له، وهو يؤمن في قرارة نفسه بأن الحق الذي يمثله سينتصر في نهاية المطاف على الباطل الذي يمثله كل من يختلف معه. هذا الاعتقاد الراسخ لدى أصحاب الفكر المنغلق جعلهم يلجأون إلى العنف كوسيلة لتحقيق غاياتهم حتى لو تحققت على حساب إكراه الآخرين وإجبارهم على الخضوع والإذعان لما ترسخ في بواطن عقولهم بأنه الصواب الذي لا يداخله الشك والريبة، رغم أنهم يفتقرون إلى الحد الأدنى من المنطقية في جدالهم مع مخالفيهم، ناهيك عن بذاءة ألفاظهم وسوء سلوكهم وقلة درايتهم بالعلوم الدنيوية، فضلاً عن جهلهم الفاضح بتنوع وتعدد مصادر العلوم الشرعية. ومع ذلك، نجد أن أنصارهم من مختلف الفئات العمرية والمستويات التعليمية! وفي هذا دلالة واضحة على ضعف مخرجات التعليم، وذلك لأن الطالب يعتمد في كافة مراحله التعليمية على التلقين والحفظ دون أن ننمي لديه مهارات التفكير والتحليل والنقد، بحيث يتحرر عقله من الارتهان إلى ما يشاع في محيطه من أفكار ومسلمات التي بطبيعة الحال تلعب دوراً سلبياً في تأصيل التبعية العمياء في عقله الباطني إلى رأي الأغلبية حتى لو خالف العقل والمنطق!. قد يكون من المستغرب جداً أن نجد من بين أعضاء هيئة التدريس في الجامعات من يتسم فكره بالانغلاق أمام كل الأفكار والآراء المخالفة له، لكن هذه الظاهرة من وجهة نظري لا علاقة لها بالمستوى التعليمي ولا بتنوع الخبرات التي اكتسبها الأستاذ الجامعي خلال فترة دراساته العليا، بل هي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمراحل التعليمية المبكرة حيث يسهل ترسيخ الأفكار المتماهية مع الثقافة السائدة في المجتمع، مما يجعلها تشكل القاعدة الأساسية التي تؤثر على تصرفاته وسلوكه تجاه الآخرين، إلا أن ذلك لا يعني أن الجميع ينطبق عليهم هذا الوصف، فهناك قلة من المثقفين استطاعوا الانفكاك من هيمنة وسطوة ثقافة المجتمع بفضل قراءاتهم واطلاعاتهم المتنوعة في شتى حقول العلم والمعرفة خلال سنوات عمرهم الباكرة جداً. لذلك أرى بأن أولى خطوات علاج الانغلاق الفكري هي تشجيع صغار السن على تنويع قراءاتهم وحثهم على استقاء المعرفة من مصادر متعددة، بحيث تتوسع مداركهم ويكون لديهم قابلية الاختلاف في الرؤى والأفكار فيما بينهم، فهذه الخطوة هي أفضل وسيلة نغير بها ثقافة المجتمع من الانغلاق والتشدد إلى الانفتاح والتسامح مع الآخرين، كما أوصانا خاتم الأنبياء والمرسلين، عليه أفضل الصلاة والتسليم.