هو ذلك الحصان الذي دمَّر مدينة طروادة في غضون ساعات، بعد أن صمدت لسنوات عشر من الحصار، لكنه الخطأ الذي لم يغتفر للأمير هكتور وجنوده، ولقد تحوّل ذلك الحصان في الحروب التي وقعت في تاريخ البشرية إلى مسمى آخر خاصة في الحربين العالميتين إلى ما يعرف اليوم باسم (الطابور الخامس)، وهو يقوم بنفس المهمة التي قام بها ذلك الحصان، فله جانب مضيء مشرق، وجانب خفي ينطوي على التدمير والقتل والاجتياح. أخذ هذا الطابور الخامس صوراً مختلفة، حيث أصبح صعب الانكشاف، لما يتميز به من تخفي غاية في البراعة، فيتلون كتلون الحرباء ويتخفى كتخفي الحبّار. ظلت هذه الخدعة لعبة الأمم القوية على تغيّر صورها واختلاف أنماطها، لكن مبدأها واحد وهو الغزو من خلال القوى الناعمة التي ليس لها صوت ولا دخان، كما يحدث في الحروب وقد تُحقّق ما لا تحققه الحروب وإن كان على مدى طويل لكنها قوية التأثير وبعيدة عن الخسائر والمجازفات. في الحروب التي قادتها الولاياتالمتحدة منذُ وَعْينا نستطيع أن نحكم أنها منيت بهزائم وخسائر كبيرة جدًا في فيتنام والعراق وأفغانستان مثلًا، ولكنها لم تكتفِ أو تتوقف بل تحولت بعد ذلك لاستخدام الوسيلة الأكثر نجاعة كوسيلة إبيوس الذي بناه للإغريق وفك به حصن طروادة المنيع. ما يُصطلح عليه لدينا اليوم (بالحقوقين والليبراليين والدواعش) هو أقرب لمفهوم الطابور الخامس أو (حصان طروادة)، لأن لكل منهم مطلباً ينتفي مع ديننا وثقافتنا وسياسة بلادنا، قائم على الهدم والتدمير ولكن بطرق ملتوية كالقوانين الوضعية بمفهومها الغربي، والتكفير بمفهومه الخارجي، والحرية العشوائية بمفهومها الانحلالي. وتحت ذريعة «الحرية والتخلص من التراث»، وذريعة «الكفر والردة» وذريعة «قوانين البلد الظالمة» حسب فهمهم، أخذ الكل يجرّم ويلقي بالتهم على الآخر، ليلبي نداء أجندته الخاصة، ويُمضي مشروعه ليعيد التشكيل داخل بلادنا كيفما أراد. وقد لوحظ نشاط هذه الفئات وقت ارتكاب الكوارث والحماقات من كل الأطراف، ليكون التأثير أشد وقعًا أي أن كلًا منهم يقتات على حماقات الآخر، فمثلًا ينشط دعاة الليبرالية عند وقوع التفجيرات وينشط دعاة التكفير عند وقوع المحظورات الدينية والعقائدية، وكل له أداته المستخدمة، فبينما بعضهم يعتمد تمزيق الأجساد يعتمد آخرون على تمزيق العقول وكل طرف وحشي لا يقل إرهابًا عن الآخر. أتمنى ألاَّ يدوِّن لنا التاريخ أسوأ مما دون لطروادة…!