في كل مرة أسمع أو أشاهد فيها أفراداً يتناقشون بحماس وتشنج حول فكرة أو قضية ما، تعلو أصواتهم وترتفع أياديهم وتلهج ألسنتهم بأغلظ الأيمان أن رأيهم هو الصواب ولا شيء غيره، أشعر بالحيرة والدهشة حد أن حاجبيَّ يحلقان لأعلى جبيني.. مجادلات كتلك في برامج تلفزيونية حوارية، أو عبر الأثير، أو في مجالس عائلية، أو اجتماعات عمل، أو تويتر وغيرها تجعلني أتساءل في سرّي من أين يأتي الناس بهذا الكم المفرط من اليقين؟ كيف وصلوا للقناعة التامة بأن رأيهم أو منهجهم أو طريقتهم هي الصواب حقّاً؟ كيف جزموا بأن فلاناً كانت نيته كذا ولم تكن كذا؟ كيف تحققوا من بطلان تلك الفكرة أو ذلك المزعم؟ كيف أيقنوا بفساد أو صلاح، رجز أو طهارة سريرة ذلك الشخص؟ كيف يخوضون في أمور غيبية يزعمون بما شاءوا من استدلالات أنها مكشوفة لهم فيختلفون مع نظرائهم وتنقطع حبال ود كانت ممدودة بسبب يقينهم الزائف؟. لا يقف بعضهم عند ذلك، فمنهم من يصنفون مصائب الدهر ونوازله لمن حولهم فيستطيعون تفسيرها بجرأة ويقين أو يحددون أسبابها وحكمتها. فهي لمن يحبون ابتلاءات ليمحصهم الله تعالى ويرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة، وأن الله تعالى إذا أحب عبداً ابتلاه.. أما نفس المصاب إذا حل بمن يكرهون قالوا بأنها عقوبة من الله شاء تعالى أن يعجِّلها لهم في الدنيا وما في الآخرة ينتظرهم أعظم وأشد.. متناسين أن الخير كله إليه والشر ليس إليه، وأن «مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ». هناك أيضاً المجادلون بشأن المستقبل والأمور الغيبية، والمتكهنون بالنتائج المترتبة على أمور يفترض حدوثها ولم تحدث بعد، أقل ما يقال فيها إنها اجتهادات أو تخرصات. مثل الذي «يناهض/ يشجع» قيادة المرأة للسيارة ثم يجزم بما لا يدع مجالاً للريب أن قيادة المرأة سوف تكون ذات أثر «سلبي/ إيجابي» على الأسرة والمجتمع وأخلاقياته. ولا يقل عن السابق ذكرهم العجب من المعممين الذين يصدرون حكماً أو رأياً سواء كان مبنياً على تجربة شخصية أم لا، ويعممونه على جنس كامل، أو قبيلة، أو أفراد يسكنون منطقة ما، أو أصحاب مهن معينة، أو تخصص واحد أو بلد.. تخيل أنهم يستطيعون بفائض اليقين الذي يمتلكونه أن يختزلوا آلافاً من البشر تحت رأي قطعي لا يقبل الشك دون أن يخضع هذا الرأي لأبسط أبجديات البحث العلمي أو الدراسة المحكمة! لعله من المعقول أن تملك اليقين تجاه ما بدر منك من أقوال وأفعال، تجاه نياتك وخططك، تجاه ثوابت الحياة ومسلماتها، تجاه الحقائق والأرقام وما يمكن إدراكه بالحواس.. لكن أن تمتلك يقيناً في حكمك ورأيك عن نيات البشر وما تكنه صدورهم وأفئدتهم.. عن ما تضمره سرائرهم أو عن منزلتهم لدى من خلقهم أو مآلهم بعد رحيلهم، لهو تعدٍّ كبير وعلوٌّ عظيم. الأمر الآخر، إن كنت تعتقد أنك تمتلك الحقيقة المطلقة فما جدوى أن تلوِّح بسبابتك حتى تكاد تفقأ عين من يخالفك، وأن تستنزف حنجرتك، وترهق حبالك الصوتية في الجدل والمراء؟ أليست الحقيقة في حد ذاتها كفيلة بمنحك الطمأنينة والسلام الداخلي اللذين يغنيانك عن محاولة إثبات صحة رأيك والدفاع المستميت عنه!.