قلت في عدة مناسبات، وذكرت في عدة مقالات، أن تنظيم «داعش» صنيعة إيرانية، وأن إيران تتعامل مع هذا التنظيم بازدواجية ظاهرة وواضحة، فهي تصنعه، وتحمي قياداته، وتزعم محاربته. هذا التنظيم لم يكن له أثر في سوريا إلا في الأماكن التي تريدها إيران، ونظام بشار، وعلى الرغم من التدخل الروسي في سوريا، وادعائه محاربة هذا التنظيم، إلا أنه لم يطلق رصاصة واحدة ضده، بل جاء الإعلان عن ضرب مراكز قيادية ل «داعش»، لتفاجئنا إيران بعدها مباشرة بإعلانها مقتل أحد قياداتها في سوريا. هذا الحدث كان نوعاً من «قرص الأذن» الذي مارسته روسيا ضد إيران في سوريا كي لا تخرج عن الخط الروسي، الذي رسمه «الكرملين»، من ناحية أخرى يسيطر التنظيم على الشمال السوري، فكيف يحدث ذلك؟ المسألة هنا سهلة، ولا تحتاج إلى كثير من التفكير، فالشمال السوري يشكِّل الملاذ الآمن لقيادات التنظيم، إضافة إلى أنه المكان المناسب للداخلين إلى سوريا من الراغبين في الانضمام إلى ذلك التنظيم عن طريق تركيا، أو أولئك المنضمين إليه عن طريق سوريا. هذا التنظيم يتَّبع نظام «الخلايا العنقودية»، كما كان حال «القاعدة»، وكما سيكون حال التنظيم اللاحق ل «داعش»، ما يسمح له بتعدد الخلايا، والقيادات مع «وحدة الزعيم»، ولذلك ليس من الصعوبة إنشاء تنظيم، لأنه سيلد خلايا تتبع التنظيم الرئيس، حسب «الوهج الإعلامي»، الذي يحققه ذلك التنظيم. ولعل القوة الإعلامية الضخمة للتنظيم، هي من أهم أسباب انتشاره وقوته، الأمر الذي لفت انتباه إيران منذ البداية، فقامت به عندما أنشأت التنظيم، وبالتالي علينا ألا نستغرب من وجود أشخاص هنا أو هناك ممَّن يتبعون التنظيم، ويستجيبون إليه، ويتواصلون مع قادته، أو يعملون معه عبر الشبكة العنكبوتية، وهذا ما يجعلهم لا يصدقون، أو يقتنعون بأن هذا التنظيم صناعة إيرانية، بل ويجعلهم ينساقون خلف توجيهات تأتيهم من الخارج دون علمهم مَنْ يكون هؤلاء الذين يوجهونهم، ويكتفون بالثقة فيهم، حسب ما يصل إليهم من مقولات بعض الدعاة، أو حسب ما يقرأون، أو يسمعون لهم من أقوال، أو يرون من أفعال، تبدو في ظاهرها إسلامية. إضافة إلى ما سبق، فإن عدم استهداف التنظيم طوال الفترة الماضية، يعطي انطباعاً بأن التنظيم قوي، وقادر على الاستمرار، بل ويعطي أعضاء وأفراد الخلايا خارج العراق، وسوريا، قناعة بأن التنظيم ناجح، وأن الدولة التي يحلمون فيها قائمة، تمارس عملها بنجاح. الواقع يقول غير ذلك، فالتنظيم العامل على الأرض، كما في الشمال السوري، هو عبارة عن مجموعة من الأجانب، الذين يعملون في تجارة النفط العراقي، وتهريبه إلى الدول المجاورة، ويتعاونون مع الدولة الجارة تعاوناً كبيراً في هذا الشأن، كما أنهم لا يتعرضون إلى أي هجوم من أي جهة كانت، وهذا ما يعطي ذلك الانطباع الخاطئ بأن الدولة قائمة، وتعمل بشكل صحيح، وتسيطر على الأرض، وإلى ما هنالك من «الأراجيف»، التي وقع ضحيتها أفراد الخلايا، ومشايخهم، ودعاتهم. عملية الانضمام إلى التنظيم تختلف أسبابها، ولكنها في سوريا تعتمد أساساً على العامل الاقتصادي، فالتنظيم لديه إمكانات اقتصادية عالية نتيجة تعامله بالنفط، ويصرف رواتب مرتفعة إلى حدٍّ ما قياساً بالوضع المأساوي في سوريا ما يجعل مسألة انضمام السوريين والسوريات إليه أمراً متوقعاً وطبيعياً. أما في العراق، فالوضع مختلف قليلاً، التنظيم في العراق يملك مجموعة لا بأس بها من الأفراد، منهم قلة قليلة جداً من العراقيين البعثيين السابقين، وعدد كبير من الأجانب، الذين يتوزعون في الأنبار، وقد تساهلت الحكومة العراقية معهم منذ البدء، وتركتهم يستولون على الموصل، ويسيطرون على الصحراء الواقعة جنوب غرب العراق، ومنحتهم الحرية الكاملة في المناطق السنية على اختلافها، لأن الوقت الذي ستقرر فيه إيران التخلص من ال «دواعش» لم يكن قد حان بعد، وحينما قررت إيران ذلك، بدأت الحكومة العراقية في تنفيذ الخطة الإيرانية بدقة شديدة، والفلوجة نموذج جيد لذلك. ما تقوم به إيران هو عملية تهجير للسنة، ثم إحلال مواطنين أفغان، وباكستانيين، وإيرانيين مكانهم. هذه الأقوام تدين بالولاء الكامل لإيران، وهو ما يعني ارتفاع نسبة مساحة الأرض الموالية لطهران في العراق، وبالتالي مزيداً من النفوذ الإيراني على الأرض العربية. الفلوجة الآن في موقف لا تُحسد عليه، فال «دواعش» يسرحون ويمرحون في الداخل، ويتعاملون مع مواطنيها بقسوة لا يمكن لنا أن نتخيلها، والقوات الحكومية موجودة حولها دون أن تتدخل، أو تحاول الالتحام مع ال «دواعش» رغم أنها قادرة على هزيمة التنظيم تماماً، ودون أي مشكلة من أي نوع كان. عدم التدخل الحكومي السريع في الفلوجة، يهدف إلى منح ال «دواعش» فرصة تصفية أكبر عدد ممكن من السكان سواء عن طريق القتل، أو الموت تجويعاً، أو التهجير، ثم يأتي دورهم في المرحلة التالية لاستكمال خطتهم الموضوعة للتهجير والإحلال. ما تتعرض له الفلوجة من حصار «داعشي» داخلي، ينحصر في مراقبة المنافذ، والقضاء على كل مَنْ يحاول الخروج من المواطنين، أو القبض عليه، وتصفيته، بينما هم في أمن أمان من أي هجوم حكومي خارجي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لم تقم الحكومة بأي محاولات لإدخال المعونات الإنسانية من الغذاء والدواء إلى الفلوجة، وهذا معناه مزيداً من الحصار على المدينة، تمارسه الحكومة بهدف إضعاف السكان، وتضخيم الحاجة إلى الهجرة منها عاجلاً أم آجلاً. الحكومة العراقية لن تتدخل قبل أن يُنهي «داعش» دوره تماماً، وإذا تدخلت فلن تكون هناك مواجهات مع ال «دواعش»، الذين سيخرجون من الفلوجة، أو ربما يكون هناك بعض الاحتكاكات والاشتباكات الصغيرة، وستنتهي لصالح الحكومة العراقية، التي ستتولى اتهام مَنْ تشاء من السكان بالانتماء إلى «داعش»، ثم تهجير أكبر عدد ممكن من السكان لإحلال الجنسيات الأخرى الموالية لطهران مكانهم. مع الأسف، هذا ما سينفذه الحشد الشعبي العراقي، وهو المخطط له للفلوجة، بل وللعراق بأكمله، أي أن يصبح تحت السيطرة الإيرانية طالما بقيت حكومة الملالي في طهران.