فصل «قيمة الفلسفة» هو بلا تردد أهم فصل في كتاب برتراند راسل المميز (problemsof philosophy)، وفيه يقرر أنه ينبغي للفلسفة أن تُدرس، لا لأجل الحصول على إجابات محددة على أسئلتها، حيث لا يوجد عندها أجوبة محددة صحيحة كقاعدة عامة، وإنما الدراسة من أجل الأسئلة نفسها، ولأن هذه الأسئلة تقوم: بتوسيع تصوراتنا للممكنات لأقصى حد ممكن، وإثراء مخيلتنا الفكرية، وضمان التقليل من التحجر الفكري الذي يغلق العقل أمام التفكر، وقبل كل شيء، لأنه من خلال عظمة الكون الذي تتأمله الفلسفة يصبح العقل كبيراً. يرى راسل أن المعرفة هي شكل من أشكال الاتحاد بين الذاتي وغير الذاتي، وهذا الاتحاد مثل كل الاتحادات، تفسده الهيمنة، ولذلك فإن أي محاولة لإجبار الكون على مطابقة ما نجده في أنفسنا، هي محاولة فاشلة. ومن هنا عرّج راسل على النزعة الفلسفية واسعة النطاق، التي ترى أن الإنسان هو مقياس كل شيء، فعندهم الحقيقة من صنع الإنسان، والمكان والزمان وعالم الكليّات، كلها خصائص للعقل، وأنه إذا كان هناك أي شيء لم يتم اصطناعه بواسطة العقل، فهو مجهول وليس له أي حساب بالنسبة لنا. هذه النزعة السفسطائية هي ما يحكم عالم الثقافة والفكر اليوم وهي – بالنسبة لراسل – وجهة نظر غير صحيحة، لأنها تسرق من التأمل الفلسفي كل ما يعطيه القيمة، ولأنها تحبس التأمل في إطار التأمل الذاتي، فقط. وما تسميه هذه النزعة «معرفة» ليست اتحاداً مع اللا ذات، ولكن مجموعة من التحيّزات والعادات والرغبات، مما يصنع حجاباً لا يمكن اختراقه بيننا وبين العالم. أما التأمل الفلسفي الحقيقي، فهو على العكس من ذلك، يرى ارتياحه في توسيع اللا ذات، وفي كل ما يكبّر مواضيع التأمل، وبالتالي تكبر معها الذات المتأملة. كل شيء في التأمل، شخصي أو خاص، كل شيء يعتمد على العادة، أو المصلحة الذاتية، أو الرغبة: كلها تشوّه الأشياء، وبالتالي تُضعف الفكر. صناعة الحواجز بين الذات والموضوع، تصبح سجنا للعقل. من وجهة نظر راسل، المعرفة الحقة تقوم على الرغبة الوحيدة والحصرية في المعرفة وحدها، معرفة غير شخصية، نتجت عن تأمل صافٍ، معرفة يمكن للإنسان تحقيقها. والحياد في التأمل مطلب جوهريّ فهو الرغبة الصافية في الحقيقة، وهو من نفس عينة العقل الذي يمثّل العدل في مجال العمل، في مجال العاطفة هو الحب الشامل الذي يمكن إعطاؤه للجميع، وليس فقط لأولئك الذين يُحكم بأنهم مفيدون أو محط الإعجاب. وهكذا، يوسع التأمل الفلسفي، ليس فقط أشياء أفكارنا، بل و أيضاً، يكثّر الأشياء في مجال أعمالنا وفي مجال عواطفنا: فهو يجعلنا مواطنين ينتمون لكون واحد، ولسنا لواحدة من المدن المسورة في حالة حرب مع بقية العالم. في مثل هذه المواطنة الكونية تكمن حرية الإنسان. حين تنظر في كلمات هذا الرجل الحكيم وتنظر إلى ما آل إليه العالم اليوم من اصطباغ رهيب باللون الأحمر، حيث لم تعد المسلسلات التلفزيونية عن أكلة لحوم البشر بعيدة ذاك البعد عن الواقع، تجد أن الواقع شيء وأن الأحلام الجميلة شيء آخر.