جبلت النفوس على الفضيلة، وحب الخير والإحسان للناس، كما جبلت على كره الرذيلة، والنفور من الشر والإساءة للآخرين. وتتفرد هذه النفوس بسمات عن سائر المخلوقات في التمييز بين سبل الهدى ومزالق الضلال، كما قال الله تعالى: «وهديناه النجدين» الآية العاشرة – سورة البلد. ولا شك أن بصيرة الإنسان على قدر من الوعي والإدراك، ما يجعل الرؤية واضحة أمامه، وبهذا يكون الحق عنده بيناً والباطل لديه واضحاً، كما يحيط بآثار الخير والشر، مهما اختلفت ثقافاته وقناعاته، وقد عرّف الإسلام الخير والشر، وميز الحلال من الحرام وما بينهما من شبهات، وفرض حدودًا وعقوبات، وأوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل أصل الأعمال الإباحة، ما لم يرد نص بحرمتها، وبين القرآن الكريم العواقب الوخيمة الناجمة عن ارتكاب المحرمات بوقوع الفساد في الأرض التي استخلفنا الله فيها؛ لنعبده سبحانه وتعالى ونعمرها بما أمرنا به، وندبنا إليه، ومن صور الانحراف عن جادة الصواب هدر المال، والسحت فيه. وتتجلى صور هذا النوع من الفساد في حياة الفرد حين يسرف في المال، ويتلف الممتلكات العامة، ويمارس الرشوة في نشاطاته، وما يترتب عليها. ويتعاظم الفساد جشعا حينما يستولي موظف على جهود زملائه -وبكل جرأة- ينسب النجاحات لنفسه، ويلقي بالإخفاقات عليهم، ويتخذ الفساد منحى خطيرًا حين تزور الشهادات وخاصة في حقول الطب والتربية والهندسة. وتنعكس نتائج ذلك الزيف سلباً على مكونات المجتمع ومقوماته وعناصره وتنقض مخالب الفساد على المنتجات والسلع الاستهلاكية في بعض الدول؛ حيث تغيب عن بعضها اشتراطات السلامة العامة والمواصفات القياسية والمعايير المعتمدة؛ فيؤدي ذلك إلى إتلاف الثروة، وإلحاق الضرر بها؛ ليبلغ الأمر ضراوته بالغش في إنتاج وتصنيع وتسويق المواد الغذائية؛ فتتضاعف الأرباح المادية لدى المستثمر بينما يقع المستهلك بين نابي غلاء الأسعار وتدهور الحالة الصحية له ولأسرته. ويتمظهر الفساد في أشكال وظيفية، لها تداعيات على ما يعرف بالأداء المهني والناتج الوظيفي، كالبطالة المقنعة والتسيب الوظيفي، الناشئ عن الاستهتار وضعف الرقابة الذاتية والاتكالية والمحسوبيات الشخصية وسوء الرقابة الإدارية. وتأتي التجاوزات غير النظامية عبر الممارسات المخالفة للقانون على حساب المصلحة العامة باستغلال الموارد؛ لتحقيق المآرب الذاتية. وإنشاء المرافق العامة ليس بمنأى عن هاوية الفساد وانعكاساته، ولاسيما المرافق النابضة بالحياة كالمستشفيات والمدارس التي هي محط اهتمام المسؤولين وخططهم التنموية؛ إذ تعتري بعض هذه المنشآت اختلالات في بنيتها الهندسية والخدمية سرعان ما تتكشف على وقع الأحوال الجوية السيئة. وتعمل ظاهرة الفساد على إحداث فجوة كبيرة بين الأنظمة واللوائح الرسمية والقيم المجتمعية، كما ينجم عنها تفاقم للمشكلات، وانعدام للتكافؤ الوظيفي والاستثماري، ما يسلب من الموظف المتفاني ثقته واستقراره النفسي ويخفض دافعيته في الإنجاز والمبادرة. ويقوم الفساد بتوسيع الهوة المعيشية والاقتصادية بين طبقات المجتمع وأفراده؛ حيث تسود مظاهر الأنانية وحب الذات مغيبة ألوان التكافل الاجتماعي. وتعد الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد صمام أمان؛ لإرساء مبادئ النزاهة والحؤول دون تجاوز أطرها ومناهجها، وذلك يحتم علينا التعامل مع ضوابطها بجدية، وتبني رؤيتها في تطبيق معايير النزاهة واجتثاث الفساد وردم بؤره. وأقترح على وزارة التعليم تكثيف الوحدات والمفردات الخاصة بمكافحة الفساد في منهج التربية الوطنية؛ لتعزيز المثل الأخلاقية وترسيخ القيم الوطنية؛ تأصيلا للنزاهة لدى الناشئة، وإشراكًا لأطياف المجتمع ومؤسساته في برامج مكافحة الفساد بأساليب مستمدة من الشريعة الإسلامية، محاكية للتقنيات الحديثة.