كنت لا يمر وقت طويل دون مروري بسور البقيع متجهة إلى الحرم فأسلم على ساكنيه ممن عرفت ومن لم أعرف، ثم أطيل الوقوف جهة قبر أبي أحاكيه ويحاكيني ثم أمضي في طريقي. وأحياناً يستوقفني مشهد دفن أحدهم، يتحلق مشيعوه حوله يوسدونه الأرض ويهيلون عليه التراب ثم يقف ذووه صفاً في انتظار من يواسيهم في مصابهم! ما كنت أتخيل أنني سأقف يوماً خلف السور، بعيداً، أرقب إخوتي وأبنائي ورجال العائلة يتحلقون حول أمي التي غسلتها بالسدر وطيبتها بالمسك، لتتوسد حفرة من جهة الجنوب بينما أنا في الشمال دامعة العينين واجفة القلب لا حيلة لي أمام التراب الكثيف الذي أخذ يتطاير في تلك الظهيرة ليحجب عني صوتها الذي اختلط بأصواتهم. من الذي يلقنها الشهادة الآن؟ ومن الذي يدعو لها بالثبات عند السؤال؟ أمي الأبية الكريمة التي عارضت وقاومت وأبت أن نتحامل على أنفسنا لأجلها، أمي التي حملت ستة أرواح في أحشائها واستكثرت علينا أن نحملها في أواخر أيامها. كنت أسمعها تقول لهم بكبريائها الذي لم يفارقها حتى يومها الأخير: اتركوني أنزل حفرتي وحدي فأنا أعرف طريقي وأشتهي مرقدي الذي طالما سألت الله ألا يحرمني منه، فخلوا بيني وبينه وارحلوا. اتركوني مع من اشتقت للقياه ومن تلذذت بمناجاته في صلواتي، ومن سبحت له وبحمده في صباحاتي ومساءاتي. قولي لهم إنني وصلت سالمة عند من استعجلت طيب المقام عنده وأنتم تستبطئوني! تعتقدون أنكم بأدويتكم ومستشفياتكم وعلاجاتكم تطيبونني وترحمونني، ولا راحم لي إلا هو، هو الذي يطيبني ويرحمني وإلى عليين يأخذ بيدي وهو الذي يرفعني! واليوم أمرُّ بسور البقيع فأنسى السلام إلاَّ على أول مَنْ عرفت وأطيب مَنْ عرفت وأرحم مَنْ عرفت. أسلِّم عليها من خارج السور فترد السلام! كيفك يا حالية اللبن يا تربةالمدينة المعجونة بماء النيل؟ كيفك يا كريمة اليد، يا عفيفة اللسان، يا من تغريداتك دعوات وهديلك تراتيل قرآن وغناؤك صلوات طيبات على النبي. ما جالسناك ساعة إلا وذكر الله رطب على لسانك وصلوات النبي عطر في فمك! - هل طاب لك المقام في جنة البقيع فما عدت تأبهين لحزني ولا لفقدي؟ مجروحة أنا.. موجوعة.. لمن أشكو بعدك يا أمي؟ - سلميها لله يا ابنتي. - هكذا أنت ليس عندك سوى السلام! فسلام الله عليك وعليّ من بعدك.