يعوّل البعض على الواردات النفطية أهمية قصوى كمحرك رئيس للإنفاق العام لتحقيق النمو الاقتصادي، الذي من تجلياته إنفاق القطاع الخاص. وعندما تنخفض أسعار النفط وتقل إيراداته نرى بعضنا في هلع واضطراب شديدين وكأنه لا مورد أو وسيلة غير النفط لتحقيق ذاك النمو والازدهار. ورغم أننا تعودنا ارتفاع وهبوط النفط المتكرريْن في كل عقد ومنذ الثمانينيات الهجرية. إلا أنه كظاهرة مازال كثير منا يعتقدون أنه عندما ترتفع المداخيل بسبب ارتفاع أسعار النفط فذلك لا نهاية له، وإن انخفضت يرون وكأن العالم توقف عندها، وهو نوع من الهلع غير المبرر قياسا بتقلبات النفط منذ اكتشافه. وإن رجعنا إلى الماضي وجدنا أن مصروفات القطاع العام لم تكن أبدا هي المحرك الأساس في توجيه دفة الحركة الاقتصادية. فقبل عصر الإيرادات النفطية لتغطية المصروفات العامة كان هناك كمثال: رسوم على الواردات واللؤلؤ والصّيد، ومداخيل من الزراعة، كما كان هناك كذلك المعونات الخارجية المختلفة سواء كانت بشكل وقود أو دعم مباشر. وكان حينها القطاع الخاص وليس العام هو المحرك الرئيس لإدارة دفة الاقتصاد وتشغيل الأيدي العاملة رغم شح الموارد المالية حينها في كلا القطاعين. فلما أتت العائدات النفطية الهائلة؛ اختلفت المقاييس وتقلص دور القطاع الخاص سواء في التوظيف، أو كمكون رئيس في الاقتصاد، وحل محله الانفاق العام والشركات والهيئات الحكومية والشركات شبه الحكومية. وقد توسعت أعمال الوزارات ومالت إلى المركزية في منهجها من حيث الموافقات على مزاولة الأعمال المختلفة أو من تصاريح مختلفة، فوُظفت على إثرها أعداد كبيرة. وقد توسعت الكتلة النقدية بشكل هائل بسبب زيادة حجم الإنفاق العام في الموازنات المختلفة، فاستفاد منها ونما معها القطاع الخاص بزيادة الطلب على السلع المختلفة. وكسياسات مالية ما يهم هو النظريات الاقتصادية المتبعة وتطبيقاتها التي تلجأ إليها الدول المختلفة، ولكلٍّ أسلوبه ومنهجه. ومن أهم النظريات الاقتصادية اثنتان: إحداهما نظريات «ملتون فريدمان» وهي في الاقتصاد النقدي وفي اقتصاد السوق الحر، وتميل هذه إلى تقليل دور الحكومة كأساس محرك للاقتصاد، وإلى تحرير السلع والخدمات وتقليل إدارة وامتلاك القطاع العام للهيئات والشركات. وتتبع هذه النظرية الاقتصادية أغلب الدول الغربية كما في إيطاليا وألمانيا والولايات المتحدةالأمريكية. وتقع النظرية الاقتصادية الأخرى المتداولة مع الاقتصادي البريطاني «جون كينز». وتركز هذه النظرية على دور الدولة كمحور أساسي في خلق الطلب الكلي للسلع والخدمات والتوظيف وتقييد أسعار السلع التي تراها مهمة. وتُبقي المؤسسات الكبرى والمهمة مملوكة للدولة أو مؤسسة تابعة لها أو مسيطرة عليها في حده الأدنى، كما مع شركات الكهرباء والمياه والهاتف، أو كما في قطاع التعدين والمصافي. وقد تخلت بريطانيا عن هذه النظرية بعد أن تضررت منها ومنذ عقود، إلا أنه مازال هناك كثير من الدول التي تتبعها كما مع الهند ومصر وغيرها من الدول. وقد تفردت سنغافورة وهونج كونج كمستعمرات بريطانية بمخالفة طريقة الإدارة البريطانية السابقة للاقتصاد وذلك بتطبيقها نظريات اقتصاد السوق الحر فتفردت، وقد رأينا فعاليتها بالقرب منا في إمارة دبي من حيث التميز أو كما شاهدناه في ماليزيا من الرقي الاقتصادي بسبب انتهاج ذات النظريات الاقتصادية رغم قلة الموارد. ونحن بين هذه النظرية الاقتصادية وتلك، في مياههم معا نعوم!، فقد قيدنا كمثال ومنذ عقود سعر خياطة ثوب الملابس وهو دأب نظريات كينز، وفي الوقت نفسه قلنا بالسوق الحر فتركنا سعر القماش مفتوحا كما مع نظريات فريدمان، وهو من أبسط الأمثلة عن بعض الأساليب المتبعة لإيجاد حلول. وقد خلطت بين النظريتين فرفع على إثرها الخياط سعر القماش ليعوض بذلك عن نقص سعر الخياطة المتأثرة بارتفاع تكلفة العامل. كما أن بعض الدارسين يرون في زيادة الرسوم وأسعار السلع الرئيسة وسيلة بديلة لنقص الإيرادات النفطية، إلا أن الأولى بالعملة المحلية والأخرى بالأجنبية التي تأتي عبرها المشتريات الخارجية. ونحن ما زلنا نستورد حوالي 92 % من احتياجاتنا من الخارج. وقد عهدنا ذات طبيعة الخلط بين الأطروحات مع كل انخفاض في أسعار النفط، فليس هناك بدائل للمستهلك لخفض الطلب على السلع الرئيسة بسبب ارتفاع الأسعار فتصبح الزيادة معها تضخمية ومؤثرة في نمو وتحفيز الاقتصاد. إلا أن علينا كوجهة نظر أن نقوم باتباع أحسن الطرق الاقتصادية وأثبتها وأفضلها وأقومها لكي ننسى ذلك الهلع والخشية من انخفاض أسعار النفط على الدوام. وهي دعوة رأي لتكوين اقتصاد متوازنٍ ومتنوعٍ بين الصناعة والتجارة والتعدين وقطاع الإنشاءات والخدمات، يتنامى فيه ويتزايد دور القطاع الخاص كمحرك رئيس للنمو الاقتصادي، ونحقق بذاك نموا مستداما نكون فيه سباقين على غيرنا من الدول كما نحن على الدوام.