ليسَ من قبيل الهجاءِ لذواتنا وإنما بتحريضٍ من الحقيقة أستطيع القول: ما عقّ أهلُ لغةٍ كما عقّ العربُ – المتأخرون – لغتَهم. مع أنّي أتحفظ كثيراً على القولِ بوجودِ أمّةٍ أخرى قد عقّت لغتها باستثناء ما نجترحه (نحن العرب) في حقّ لُغتنا!! وما اللسان المستعار الذي أحللناه مكان اللسان الأصلي إلا صورة تتأكد فيها كل معاني العقوق للغتنا، إذ هي خيانةٌ للسان الأصلي ذلك وأنّ من استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فقد رضي أن يكون مع الخوالف ممن يشغبون على: «هويّتهم» بما يستوردونه من خطابٍ ينكث غزل انتمائهم من بعد قوةٍ أنكاثا، ما يجعل ثقافة المُستَعير – وخطاب هويّته – ماضياً بالاتجاه الذي ينتهي بهما – الثقافة والخطاب – إلى التآكل فالانقراض! وإذا ما أردت أن تستبين سبيل فكر (أمة) وأسلوب حياتها، فانظر إلى مدى النكوص الذي تعيشه أجيالها وهي لا تحفل بلسانها، في حين تشقى في سبيل التوافر على لسانٍ قومٍ – آخرين – وإجادته وتلك حالة من شأنها أن تكون عاملاً رئيساً لتصدّع جُدُر حصون «فكر الأمة» ما تلبث بعده أن تسقط تلك الجدر، وحين تكون هذه: «الواقعة» فهي الخافضة ل: «فكر الأمة» في وادٍ سحيقٍ لا يُكترث له. وليس بخافٍ أنّ من يجتلب لساناً غير لسانه فهو بالضرورة سيجد نفسه ذات يومٍ في ضائقةٍ (وجوديّةٍ)، بحيثُ لا يسعه أن يُعمل فكره إلا في إطار تلك اللغة التي كان حفيّاً بلسانها، غير أن تكوينه يأبى عليها أن يضاهي أهل ذلك اللسان – اللغة الأخرى – فيستحيلُ: «مسخاً» ومذبذباً لا طعم له ولا لون يُمكن أن يُستدلّ بهما على وجوده في الشهود الحضاري. لغتنا العربية ليست بكبير حاجةٍ إلى مزيدٍ من التغنّي بمآثرها أو تدبيج قصائد تُتلى في مدحها ذلك أنّ مثل هذا الصنيع لا يعدو أن يكون حدثاً لحظيّاً تنتهي آثاره بانتهاء احتفاليّةٍ كانت ظنينةً على: «العربية» بيومٍ واحدٍ، يعود العرب من بعد هذا اليوم «العالمي» الذي يشي بدلالات القطعية إلى ما كانوا عليه قبلاً، من غيّهم القديم في الحطّ من شأنِ لغتهم وهجرانها على أعلى مستويات مقاعد الدراسة والتعلم، وآية ذلك يتجلّى في الغياب الفاحش ل: «اللغة العربية» في جامعتنا، فيما الحضور كان طاغياً ل: «الإنجليزية» حتى لتخال نفسك في: «لندن» ولست في مهبط الوحي وموئل: «العربية»، ما حدا بكثيرين أن يجدوا أنفسهم في مواقف حرجة طالما شعروا معها بالدون بحسبانهم لا يعرفون إلا: «العربية»! إنّ حالة التخلّف: «اللغوي» والركود الحضاري ل: «لغتنا»، سيمضي بنا إلى ما هو أبعد من ذلك إذا ما بقيت مناهجنا على ما هي عليه من هذا الترهل المُقنّع، وبقي تعليمنا – عربياً – على ما هو عليه من الرداءة المتولدة من: «العقل» التعليمي الذي نرزح تحت نيره حقباً! ذلك أنّه من المحال بالمرّة إمكانيّة تغيّر الواقع الرديء إذا لم تتغيّر أدواته ووسائله وشروط المعرفة فيه وأنماط تفكيره على النحو الذي يحفظ ل: «العربية» قيمتها وقدرها المنوط حفظه ب: «القرآن» بحسبانه كتاباً خالداً، وإنّ من أبسط معاني: «الخلود» القدرة وبكفاءةٍ مهنيّةٍ – علميّةٍ – على الإنتاج جِدّةً وتقديم الحلول لأي معضلةٍ تنشأ عن أسئلة الإنسان في كلّ زمان.. غير أنّ هذا لن يتحقق إذا ما بقينا نلتف على ذات الوسائل والأدوات ونمنحها القدسيّة ونحسب تالياً أن: «الجمود» عليها ضرب من الاستقامة، بينما الحقيقة تؤكد لنا – دون أن تحابي أحداً – تؤكد لنا بأنّنا إذا ما ظللنا عالةً على أدوات من سبق وارتجاع وسائلهم التي أنتجها زمانهم وفق مقتضيات الحاجة «المعرفية» يومهم ذاك؛ فإننا سنكرّس الإخفاقات وسنفيق ذات يوم لنجد أنفسنا بذات المكان – المتخلف -، لم نبرحه إذ لم نقطع أيّ مسافةٍ باتجاه استعادة الريادة لصناعة مستقبلٍ لغويّ آمن.. وسنبقى إذا ما كنا في وضعيّةٍ هزيلةٍ خبرةً وإمكاناتٍ تعجز أن تؤهلنا على الصبر على التحديات، فإننا والحالة هذه ستبقى ما بين المراوحة في ذات المكان وبين الوهم بأننا قد أحسنا صُنعا. وفي الجملة: فإنه ليس ممكناً – مهما كان الاحتفال بيوم اللغة باذخاً – أن تعود ل: «العربية» حقوقها، فيبرُّها أبناؤها ما لم تكن ثمة سياسة «لغوية» يسبقها تخطيط لغويٌّ يمارس من قِبل أعلى هرم في الحكومات العربية، يُدشن اشتغاله لصالح «العربية» بتخطيطٍ يجعل من أولى مهامه أولوية الدراسات التي يُطلب منها أن تُنجز جرداً لحقائق المجتمع ووقائعه إزاء «العربية»، ابتغاء وضع استراتيجية للسياسية اللغوية يتأتى ذلك من منطلق الوعي المبني على تصورٍ عالٍ بقيمة: «العربية»، بوصفها الهوية التي من شأنها أن تنأى بنا عن الاستسلام لأي هيمنةٍ أو أن نُستلب بطريقةٍ أو بأخرى. ويبقى القول: إنّ الحافظ على هويتنا، يبدأ من التخطيط اللغوي لاستراتيجية تضمن لنا: «الأمن اللغوي»، أولى الخطوات في الطريق، لاستعادة عافية: «العربية» وتشافي العرب.