لم تكن مفاجأة كبيرة أن يخرج علينا أدونيس الشاعر السوري، مهاجماً الشعب الذي يذبح منه كل يوم بالمئات، وتصبغ دماؤه الشوارع، في مبادرة من طرفه، أعدها إسقاطا لآخر أوراق التوت التي كان يتزين بها، فينكشف مثقف عربي آخر في مساحة ما بين التنظير والتطبيق. فأدونيس الذي عرّف الحداثة في كتابه (الثابت والمتحول) بأنها (امتداد للتحول من افتراض نقص أو غياب معرفي في الماضي) وتحدث عن (لا نهائية المعرفة) والهروب من جمود الثابت، خرج اليوم ليعلن عن جهله المطبق بما يحدث على الساحة العربية اليوم، جامداً على ما عرف، مصطفاً مع الطغيان. عندما تجمع النواهي الواردة في تصريحات أدونيس الأخيرة، بحيث تحرص فقط على التوجيهات والتحذيرات التي يوجهها للشعب السوري، ستجد أنه لا يترك مساحة كبيرة لمواطنيه يتحركون فيها. هو ضد ثورة السوريين على نظام البعث في سوريا، لأنها بزعمه سوف تأتي بالإسلاميين، برغم أن النظام السوري لم يسقط إلى هذه اللحظة، ولم تقم حكومة بديلة له بعد، ولم تجر الانتخابات الحرة النزيهة هناك بعد، ولا ندري هل سيفوز بتلك الانتخابات الإسلاميون أم غيرهم. ما الذي دعاه لهذه المبادرة التي أخرجته بصورة لا تليق ومحرجة حتى بالنسبة لأولئك الذين يدافعون عن فكره ويعجبون به؟ إنه تصريح تصحيحي فيما يبدو لما سبق وصرح به في شهر يونية الماضي عندما قال لإحدى الصحف إن على الرئيس السوري بشار الأسد أن يعيد الكلمة والقرار للشعب السوري. وها هو اليوم يتناقض ليقول إن الثورات العربية كلها محكوم عليها بالفشل، لأنها ثورات خارجة من المسجد على حد تعبيره. كم أعجب من سلسلة المقدمات والنتائج التي بناها أدونيس على بعضها ليخرج بهذا الموقف الذي لا يمكن أن يصدر عن مثقف حر نزيه. أعني هذا الهجوم الشرس على شعب نتفرج على ذبحه كل يوم ونتألم من عجزنا وقلة حيلتنا تجاه نصرته. ثم يخرج علينا أدونيس ليرسم المضمار الذي ينبغي أن يجري فيه السوريون. ولم يكتف برسم حدود المضمار، فأتى بحاجز أخير ليضيفه إلى هذا الحصار عندما قال إنه ضد مطالب الثوار الذين يستنجدون بالأجنبي، إذ كيف تستنجد سورية بمن استعمروها! مشيراً بذلك إلى الانتداب الفرنسي على سورية ما بين 1920 و1946 ومتناسياً أنه هو نفسه يعيش فيها. أود أن أوضح هنا أنني لا أؤيد التدخل الأجنبي في سورية، لكنني أعجب هنا من هذا التناقض، فهو حداثي في كل شيء، رافض للمحافظة رفضاً راديكالياً، ولطالما شتم ثقافة الصحراء والمسجد، إلا أنه هنا يسجل موقفاً محافظاً غريباً، اختصره في «المحافظة» على النظام القائم. بعد هذه الحواجز التي نصبها أدونيس لأهل بلده، ما هو الحل؟ ما الذي يجب أن يفعله السوريون؟ مع الأسف هو لم يقل. لقد ترك ذلك لذكاء السوريين، فأدونيس كان دائماً ما يترك الخاتمة لذهن القارئ. والخلاصة التي أراها هو أن على السوريين أن يخضعوا ويركعوا لهذا النظام الذي لم يبق بيت في سورية إلا ولهم عنده ثأر شخصي. هذه هي الخلاصة لأنه قد سد كل الطرق الأخرى وحبسهم في قفص نظام بشار الأسد المجرم. أدونيس قد ينكر هذا، وقد يقول إنه مثقف حر لا منتمي، لكن المواقف السياسية تعرف بمآلاتها في النهاية. لقد اصطف أدونيس مع نظام الأسد، ضد شعبه، ولا أعرف الأساب وراء ذلك: هل هي طائفية؟ أم امتنان لدعم الحكومة السورية له؟ أم خوف على ذويه في الشام، لكن الذي أعرفه هو أنه لو سكت لكان خيراً له. فهذا الموقف الذي وقفه وعبر به عن رؤية ضيقة جداً، لم تستوعب أن حقبة الربيع العربي أبطالها هم الشعب وهم منظروها وهم بناتها، ولا حاجة بهم لمقيم في برج عاجي في باريس ليخبرهم بما يجب ومالا يجب. في بعض المراجع الغربية يعرّف أدونيس بأنه «أعظم شاعر في اللغة العربية». نيشان أجده غريباً لكوني أرى أن شعر أدونيس في غاية الرداءة والبرود. أما أفكاره التي تجاوزها الزمن، وقالبه الواحد للحياة المدنية الحديثة، فالأفضل أن يحتفظ به لنفسه، فالتاريخ يعاد تشكيله في سورية، ولا يحتاج السوريون الآن مثل هذه التصريحات التي أرجو ألا يصدم أدونيس بأنها لا تجد لها أدنى صدى.