«لاحول ولا قوة إلا بالله».. «إنا لله وإنا إليه راجعون» عبارات ظل جاري في المقعد على إحدى رحلات الطيران يرددها وهو يقلِّبُ جواله -فور وصولنا إلى وجهتنا مساء الجمعة الماضية- سألته قلقاً ما الأمر؟ قال: سقطت رافعة في الحرم. بدأ الركاب يتحدثون عن الموضوع، تأخر فتح باب الطائرة، زاد النقاش وتداول المعلومات والنقل من المواقع. الكل يدلي بدلوه ويحلل ويفصل، هناك من ينتقد إجراءات السلامة، وآخر يتحدث عن الفساد، وثالث يقرأ من جواله «لايمكن أن تكون عاصفة فمكة ليست على خط الاستواء»! الرابع يتحدث عن أنها بفعل فاعل. أكثر من لفت نظري الذي قال: «إن السبب عدم ربط الصواميل» !عدت إلى الجوال، الصور مفزعة، المقاطع مرعبة، إنها مأساة بحق. ما هو أسوأ من ذلك كان التعليقات. أكثر من تناولوا الأمر لا خلفية علمية لديهم عن السلامة ووسائلها أو طريقة عمل الرافعات العملاقة، أو أحوال الطقس والتقلبات المناخية. جل أولئك كانوا خارج دائرة الحدث يعلقون من بيوتهم أو استراحاتهم على بعد مئات أو آلاف الكيلومترات عن مكةالمكرمة. الشيء الوحيد الذي لم يستطع أحد مناقشته أو التشكيك فيه هو عدد الشهداء والمصابين، فالشفافية العالية وتحديث البيانات أولاً بأول لم تدع مجالاً للتكهن أو التشكيك في الأرقام كما كنا نسمع في حوادث سابقة. هذه المتلازمة مع كل أزمة أو حادثة، والجزم بآراء قاطعة دون التثبت منها، على ماذا تدل؟ هل هي تنفيس عن احتقان، أم رغبة في المشاركة وتسجيل موقف، أم انعكاس للدواخل والحالات النفسية، أم شيء من هذا وذاك؟ هل المطلوب من كل أحد أن يدلي بدلوه في كل أمر حتى وهو ليس ملماً بجوانب الموضوع المختلفة ولا يملك معلومات أو حقائق أو حتى قراءة صحيحة؟ الجانب الآخر يتعلق بتسريب مقاطع من كاميرات المراقبة، ومقاطع أخرى من موقع الحادثة بعد أن أصبح في عهدة لجنة التحقيق، فمن المسؤول عن هذه التسريبات؟ وماذا عن تداول صور ومقاطع لبعض المتوفَين أو المصابين في هذه الحادثة وغيرها، وهنا أسأل ما الرأي القانوني في ذلك؟ خاصة مع تكرار ممارسة تصوير الموتى والجرحى في الحوادث. القنوات التليفزيونية تفاوتت تغطياتها حسب توجهاتها، الارتباك كان واضحاً على بعضها. كنت أتمنى من قنواتنا استضافة خبراء الأرصاد -خاصة مع استمرار التأكيد على أن الأحوال الجوية هي السبب الرئيس- ليشرحوا أو يعلقوا على الأمر من وجهة نظر علمية، كما تمنيت استضافة متخصصين في عمل الرافعات لشرح الأمر من منظور مهني. حتى الجهة الإشرافية أو مهندسو المشروع لم يظهر منهم أحد، لذا بقي كثير مما ورد في تلك التغطيات يغلب عليه الطابع الإنشائي. تعامل الجهات الرسمية مع الحادثة كان محل إشادة، وهذا بلاشك واجبهم ولكنها جهود تذكر فتشكر. توجيه الأمير خالد الفيصل بتشكيل لجنة للتحقيق ورفع النتائج بشكل عاجل وزيارته في نفس الليلة لموقع الحادثة وللمصابين، ثم زيارة الملك سلمان يرافقه المحمدان في اليوم التالي للحرم وتفقد الأضرار التي خلفتها الحادثة والاطمئنان على المصابين في المستشفيات تعكس اهتمام القيادة بخدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما. إصلاح الأضرار التي خلفها الحادث ورفع نتائج التحقيق في أقل من ثلاثة أيام ثم صدور بيان الديوان الملكي المتضمن إعلان النتائج والقرارات وتحميل المقاول جزءاً من المسؤولية، والأمر الملكي بتعويض ذوي الشهداء والمصابين، كل ذلك يعكس مدى الاهتمام والحرص ويترجم ما قاله خادم الحرمين في الحرم المكي بأن مكة والمدينة تهمنا قبل أي مكان في الدنيا. اللفتات الإنسانية في ثنايا هذا الحادث كثيرة، فعلاوة على جهود رجال الإنقاذ من مختلف القطاعات، كان تداعي كثير من الشباب المكي للتبرع بالدم ليلة الحادثة، إضافة إلى زيارات المسؤولين وعلى رأسهم الملك للمصابين في المستشفى وتوجيهه رعاه الله «باستضافة اثنين من ذوي المتوفين من حجاج الخارج ضمن ضيوف خادم الحرمين الشريفين لحج عام 1437ه مع تمكين من لم تمكنه ظروفه الصحية من المصابين من استكمال مناسك حج هذا العام من معاودة أداء الحج عام 1437 ه…، ومنح ذوي المصابين الذين يتطلب الأمر بقاءهم في المستشفيات تأشيرات زيارة خاصة لزيارتهم والاعتناء بهم… ». بيان الديوان الملكي أوضح كذلك الاهتمام بجوانب السلامة وأن هناك عدم تجاوب من قبل المقاول مع خطابات الجهات المعنية بمراجعة أوضاع الرافعات وخاصة الرافعة التي سببت الحادثة. في رد على من يتحدثون عن غياب معايير السلامة في مشاريع الحرمين. ما جاء في البيان كان كافياً للرد على المطبلين والمرجفين والمتهكمين على حد سواء، فالبيان أوضح «أن السبب الرئيسي للحادث هو تعرض الرافعة لرياح قوية بينما هي في وضعية خاطئة». إذن «الرافعة لم تسجد» -كما حاول بعضهم أن يصور الحادثة- كما أنها لم تكن «مذبحة» كما زعم أحدهم! عبثاً تحاول أن تطهر أنفساً ** من طبعها فالنفس لا تتغير ليست المرة الأولى التي يخرج فيها المتلونون ويغيرون من مواقفهم تبعاً للرأي الرسمي، الخطأ والنقص واردان في كل عمل بشري، إلا أن القفز على الحقائق والقراءات المبتسرة وإصدار الأحكام دون انتظار نتائج التحقيق أو أحكام القضاء هو جزء مما نعاني منه في مثل هذه المواقف. بالنسبة لإيران وأبواقها لا جديد، فقد وجدوا من هذه الحادثة فرصة للنيل من جهود المملكة لخدمة الحرمين الشريفين، ومع ذلك فالسعودية بحمد الله ليست في حاجة لمن يزايد على مواقفها وما تقدمه للإسلام والمسلمين. يكفي المملكة أن رافعاتها تستخدم للبناء والتعمير بينما الرافعات في إيران تستخدم لإعدام معارضي النظام وتعليق جثثهم. السلطات السعودية لم تفرق بين المصابين حسب جنسياتهم أو مواقف بلادهم من المملكة، فقد قام خادم الحرمين الشريفين بزيارة بعض المصابين من الجنسية الإيرانية. يتطاول السفهاء علما منهم ** أن الكريم مع اللئام محير يأبى النزول إلى دناءتهم، ولا ** يرضون أن يرقوا إليه فيطهروا بعد كل هذا لا أعلم لماذا ظلت كلمات الراكب الذي قال: «بأن السبب عدم ربط الصواميل»، ترن في أذني. يبدو أن هناك كثيراً من الصواميل تحتاج إلى ربط.