الحديث يقابل الصمت؛ به تنجلي الحقائق وتحل الأحجيات، و تأخذ المشاهد والخطابات على جميع الأصعدة حقها من التوضيح؛ إلا أنها قاصرة عن وصف كل حدث أو التعبير عنه. لذا فنحن نصمت لنعبر بطريقة غير الكلام، ونسجل موقفا تجاه سلوك أو شعور بعفوية أو بتعمد لدواع يجبرنا عليها الحدث. فالحكيم إن كان نطقه شكرا يكون صمته تأملا وفكرا، هو قليل الكلام يجري حديثه في ملكوت ذاته. والصامت تقي يخشى زلة اللسان، التي تمحق عمله الصالح فيسكت حتى لا يغتاب، ولا يكذب، ولا يشهد زورا، ولا يفحش بالقول. وجدت سكوتي متجرا فلزمته ** إذا لم أربح فلست بخاسر و الصمت إلا في الرجال متاجر ** و تاجره يعلو على كل تاجر. بل يأتي صمته تعبيرا عن قوة حجته، وصلابته، وتواضعه؛ فهو يسكت رأفة بمن تحدث معه سيما الأكبر منه سنا أو الأجهل، حتى لا يكسر ضعفهم ويبين للجمهور رداءة حجة خصومه، التي حتما ستتضح فهو المنتصر بصمته. والصامت مترفع عن الملاسنة والمشاتمة، فمن ذا يعض الكلب إن عضه الكلب. وقد يكون محبطا عندما تحيط الخيبات بكل إيجابيته فتغتالها، فكأن حال سكوته يقول لم يعد للحديث جدوى. وقد يكون معترضا لا يقوى على التصريح لظروف تفوق قدرته والعكس صحيح، ممكن أن يكون مؤيدا لموقف متكامل لا يحتاج منه إضافة فيكتفي بالتأييد بصمت. حتى الاحتقار لمشهد سيئ يدفع للسكوت تعبيرا عن الترفع عنه. والصمت كيد وخداع، فبه يتم إيهام الآخر بمع أو ضد، والحقيقة يحتفظ بها الصامتون المراوغون لأنفسهم. وفي الزواج صمت الفتاة تعبيرعن رغبتها «ورضاها سكوتها». ويحدث أن نصمت خجلا وحمدا من إطراء، فقمة الثناء تعقد اللسان. والمتشكك يصمت حتى تهدأ معمعة الريبة داخله بترجيحه أحد الأمور. وكم هو مؤلم صمت الخائفين والمتألمين والمقهورين وقليلي الحيلة والمنكسرين في زمن يعج بالبلاء والمحن. أما الدهشة فلا تجد كلمة توفي اللحظة حقها من الوصف، فالصمت في حرم الجمال جمال. إذا كان الكلام قيمة فالسكوت آية عظيمة تدفع للتأمل وقراءة الحدث بوضوح، ولغة الجسد رفيقته في كل حالاته، فهي من تعين الآخر على القراءة الصحيحة.