في إجازة منتصف العام الدراسي الفائتة، سافر صديق لي إلى دبي لقضاء الإجازة مع عائلته هناك. كانت رحلته على متن شركة طيران صغيرة وجديدة. كانت رحلة العودة في السادسة مساء. ولكنه حين وصل المطار فوجئ بأن الرحلة أقلعت الواحدة ظهرا. مسئولو الشركة برروا الموقف بأنهم اتصلوا عليه لإعلامه بالموعد الجديد دون جدوى. كانوا يتصلون على جوال له تركه في الرياض. الحل كان في تأجيل عودته ليوم واحد، أي الحجز له على رحلة الرياض في اليوم التالي. وهنا بدأت المعاناة. يقول الصديق إني درت دبي فندقا.. فندقا أبحث عن غرفة أمضي فيها الليل مع أسرتي ولم أجد. مرت الساعات طويلة عليه وهو يتنقل بزوجته وأطفاله وعفشهم في سيارة مستأجرة من فندق إلى آخر، ومن شقق مفروشة إلى أخرى دون جدوى. حين طال بحثه دون جدوى، اتصل على صديق سعودي له من سكان دبي مستفزعا به. كان الصديق كريما معه فعرض عليه إما استضافته في شقته أو «تدبير» شقة له. اختار الحل الثاني، الذي تمثل في استفزاع صاحبه المقيم بدبي بصديق مصري أعزب يقيم بشقة صغيرة في الشارقة من أجل أن يخليها لصاحبنا وأسرته لليلة واحدة، وهو ما تم أخيرا. دبيالمدينة المحشورة بفنادق وشقق فندقية، لم يتوفر فيها غرفة واحدة في ذاك المساء! لماذا؟ ببساطة، لأن السعوديين الفرحين بإجازة أسبوع واحد ملأوا فنادقها وشققها. أنقل عن تركي الدخيل في جريدة الوطن بتاريخ 16/ 11/ 2011 حول السعوديين في إجازة الحج الماضي النص التالي: «إحدى الإحصائيات تتحدث عن نصف مليون سعودي دخلوا دبي خلال الأسابيع الماضية، وثانية تتحدث عن مليون تذكرة طيران أصدرت من السعودية لدبي في فترة الإجازة، وبحسب العاملين في الطيران فإن المقاعد الشاغرة نفدت لما يزيد على 12 طائرة يوميا. أنفق السعوديون في دبي خلال فترة الأعياد ما يقارب الستين مليون ريال! حتى تجاوز إشغال الفنادق في دبي 95%» انتهى كلام الدخيل. أما عن السعوديين في دبي خلال إجازة نصف العام الدراسي، التي حلت بعد إجازة الحج بشهرين فقط، فقد كتبت بدرية البشر في جريدة الحياة بتاريخ 23 يناير الماضي أن عدد السعوديين في دبي ناهز ال400 ألف سائح حلقوا بإشغال الفنادق والشقق الفندقية واصلين به إلى نسبة 100%. قصة صاحبنا والإحصائيات التقديرية أعلاه تقول بوضوح إن جزءا من هذا المجتمع يحب أن يقضي وقت الترفية بمثل ما هي منظمة هذه القضايا في مدن مثل دبي أو المنامة أو الدوحة أو غيرها مما يهجم عليه مواطنينا عند حلول الإجازات مهما قصرت. لا بأس! ما الذي يجعل جزءا من مواطنينا يهجمون على مدن الخليج في إجازاتهم؟ ما الذي يوجد هناك مما لا يوجد لدينا؟ لندع بدرية البشر وفي نفس المقال المشار إليه أعلاه ترسم لنا بقلمها الروائي تجربة السعوديين في دبي. تقول البشر «توقفت عند مقهى في مركز دبي للتسوّق التقيت بسيدة سعودية تشتري مثلي كأس قهوة على عجل، فقالت لي وهي تشير إلى طاولات القهوة المكتظة انظري هؤلاء هم السعوديون الذين يرفضون الاختلاط، إلى أي حد يختلطون. كانت الطاولات قريبة جداً من بعضها بلا حواجز، نظرت فوجدت جماعة رجال ملتحين يجلسون وينغمسون في أحاديث حميمية سعداء بلقائهم وحديثهم، وعلى طاولات أخرى نساء أخريات منقبات ومحجبات يتسلين بشرب القهوة والحديث. ثم أنظر فأجد أطفالاً تحت شرفة حلقة التزلّج. يتزلجون بأحذيتهم على سطح الجليد، وآباءهم وأمهاتهم يراقبونهم ويلتقطون لهم الصور في سعادة بالغة. نساء هنا وهناك بصحبة أزواجهن يتسوقون، وهناك في ركن الطعام يأكلون طعامهم، وربما أنها من المرات النادرة التي تعيش بعض العائلات السعودية طقس اجتماع العائلة، الأب يجلس مع أبنائه وزوجته على مهل، يتعرف عليهم، ماذا يحبون، بماذا يتميزون، يستمع لطرائفهم ونوادرهم، ويلتفت لتعليقات زوجته بعيداً عن المطبخ وغرفة التلفزيون». لاحظوا أن الرجال والنساء الذين ترسم لنا بدرية سيماءهم لا يختلفون عن متوسط المواطن السعودي «رجال ملتحون ونساء منقبات». يبدون وكأنهم صورة عن المجتمع السعودي الأكبر. تجربة السعوديين في دبي، كما تقررها الأرقام وكما تسردها البشر، تقول إنهم، أي السعوديين، مقبلون على أنماط من قضاء وقت المتعة يناسب أسر الطبقة المتوسطة بنكهتها العربية. هكذا يقول الواقع. لكن الجدل الفكري حول أنماط السلوك المصاحب لهذه النشاطات يبين حقيقة معاكسة تماما. فبعكس السعوديين على الواقع الحقيقي، فإن السعوديين في الواقع الافتراضي يرفضون أي واقع يحتمل منه وجود الرجال والنساء في مكان واحد. لدي أمثلة على ما أقول. في أحد تفاعلات تغريدة صالح الشيحي عن ملتقى المثقفين، التي وصم بها ظهور شعر نساء في بهو الفندق أنه «خزي وعار»، كان هناك 300 رد من القراء جميعها تؤيد الشيحي في هجومه على الملتقى. أزيد من ذلك وأوضح منه، ما نعيشه هذه الأيام حول مهرجان الجنادرية. فالمهرجان الذي شهد حتى يوم الإثنين الماضي خمسة ملايين زائر وزائرة (بحسب جريدة الرياض، عدد الثلاثاء الماضي)، وهو نجاح جماهيري فائق، شهد غزوات احتسابية من ناحية وهجوما لفظيا كبيرا من ناحية أخرى. الغزوات والهجوم تركزا على سلوك العوائل، النساء خاصة. ليس غريبا أن يحدث هذا، فلا شك أن قوى اجتماعية شديدة المحافظة ستستميت ضد أن يكون مسلك العوائل السعودية في الرياض مشابها لسلوكها في دبي، وستحاول أن تفرض رؤيتها على كل المجتمع. هذا خطابها وهذه رؤيتها. الغريب والمثير هو أن نفس الشريحة الكبرى من مستهلكي هذا الخطاب المضاد لسلوكيات الترفية كما تتجلى في دبي أو الجنادرية هم نفسهم المستمتعون برحابة مولات دبي وعبق الجنادرية. إنها معضلة: أن تشجع خطابا يحارب طرق الحياة التي اخترتها. هذا هو المعنى الفلسفي للاغتراب، اغتراب الفرد عن نفسه وعن حاجاته.